وقوله تعالى : { فَمَنْ كَاَنَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ } [ 184 ] يقتضي تعليق جواز الإفطار على اسم المرض والسفر ، إلا أن المريض الذي لا يضره الصوم مخصوص إجماعاً ، ولا يعرف له مأخذ أقوى من الإجماع .
وأطلق السفر ولم يذكر له حداً ، والمسافة القريبة لا تسمى سفراً في العرف ، فلا جرم اختلف العلماء في تحديده ، فحده أبو حنيفة بثلاثة أيام ، والشافعي بستة عشر فرسخاً ، ولكل مأخذ . .
قوله تعالى : { وَعَلىَ الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } [ 184 ] : قال الشافعي : ظاهره أن الذين يطيقونه إذا لم يصوموا أطعموا ، ونسخ ذلك في غير الحامل والمرضع ، وهي في حقهما ظاهرة ، ومنه قال علي رضي الله عنه في المريض والمسافر ، إنه يفطر ويطعم كل يوم مسكيناً صاعاً ، ثم قال : وذلك قوله : { وَعَلىَ الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } . وكانت عائشة تقرأ : " وعلى الذين يطوقونه فدية " وذلك في الشيخ الهرم{[160]} .
والذي قاله علي - رضي الله عنه - فيه نظر ، فإن قوله : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ } يتبع{[161]} دلالة قوله بعد ذلك : { وَعَلىَ الّذِينَ يُطِيقُونَهُ } على المسافر والمريض ، لأن ما عطف على الشيء غايره لا{[162]} محالة ، وليس يظهر أيضاً حمله على الشيخ الكبير ، فإنه ليس مطيقاً بل كان مطيقاً ثم عجز ، فعلى هذا قال مالك وربيعة في حق الشيخ الكبير : لا أرى عليه إطعاماً فإن فعل فحسن ، ولم يروا الفدية قائمة مقام الصوم الذي هو عبادة بدنية ، ولا أن تكليف الصوم لاقاه ، وهم يقولون : الذي نسخ كان ترك الصوم إلى الإطعام لا قضاء الصوم مع الإطعام ، وقد سمى الله تعالى ذلك فدية ، والفدية ما يقوم مقام ما يفدى عنه ، فالجمع بين الفدية والقضاء لا وجه له ، وكان الواجب في الأصل أحد سببين من فدية أو صيام لا على وجه الجمع ، فكيف يجوز الاستدلال به على إيجاب الجمع بينهما على الحامل أو المرضع . .
نعم قال ابن عباس في الحامل والمرضع عليهما الفدية ولا قضاء عليهما ، فله حجة في ظاهر القرآن في اقتصاره على إيجاب الفدية دون القضاء ، فكانت الآية دالة في الأصل على التخيير بين الفدية والصوم ، فلا يجوز أن يتناول الحامل والمرضع لأنهما غير مخيرين ، لأنهما إما أن يخافا فعليهما الإفطار بلا تخيير ، أو لا يخافا فعليهما الصيام بلا تخيير ، ولا يجوز أن تتناول الآية فريقين : تقتضي بظاهرها إيجاب الفدية ويكون المراد في أحد الفريقين التخيير بين الإطعام والصيام ، وفي الفريق الآخر إما الصيام على وجه الإيجاب بلا تخيير أو الفدية بلا تخيير ، وقد تناولهما لفظ الآية من وجه واحد ، فثبت بذلك أن الآية لم تتناول الحامل أو المرضع .