قوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ } [ 185 ] : يحتمل معاني ، منها : من كان شاهداً لمعنى مقيماً غير مسافر ، كما يقال الشاهد والغائب ، فمقتضاه أن لا يجب على المسافر ، لكنه لما قال : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ } [ 185 ] بين حكم المرضى والمسافرين في الإيجاب ،
ويحتمل أن يكون قوله { شهد . . الشهر } أي علمه ، وذلك يدل على أن من أفاق من الجنون بعد مضي شهر رمضان فلا قضاء عليه ، خلافاً لمالك فإنه قال فيمن بلغ وهو مجنون فمكث سنين ثم أفاق ، فإنه يقضي صيام تلك السنين ولا تقضى الصلاة ، ومالك يحمل قوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } على شهوده بالإقامة وترك السفر دون ما ذكره غيره من شهوده بالتكليف ، ويصعب عليه الفرق بين الصغر والجنون فإنهما ينافيان التكليف وليس اسم المرض متناولاً له . .
وأبو حنيفة يقول : قوله تعالى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } لا يمكن أن يراد به شهود جميع الشهر لأنه لا يكون شاهداً لجميع الشهر إلا بعد مضيه كله ، ويستحيل أن يكون مضيه شرطاً للزوم صومه كله ، لأن الماضي من الوقت يستحيل فعل الصوم فيه ، فعلم أنه لم يرد شهود جميعه ، فتقدير الكلام عنده : فمن شهد منكم بعض الشهر فليصم ما لم يشهده منه ، وهذا بعيداً جداً . . ومالك يقول : شهد أي أدرك ، كما يقال : شهد زمان النبي عليه السلام أي أدرك ، والمجنون قد أدرك ذلك الزمان فلزمه الصوم لزوماً في الذمة . .
قوله تعالى : { فليصمه } : والصوم في اللغة : الإمساك المطلق ، غير مختص بالإمساك عن الأكل والشرب دون غيرهما ، بل كل إمساك فهو مسمى في لغة صوماً ، غير أن الله تعالى أحل الأكل والشرب والجماع إلى أن يصبح ، ثم أمر بإتمام الصوم إلى الليل ، ففحوى الكلام تحريم أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة ، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل ، ولهذا ساغ الاختلاف فيه واختلف فيه علماء السلف ، وأما الحيض والاستقاء فلمنافاتهما للصوم ، فلا يعلل{[163]} أصلاً ، فقاس قوم الجنابة على الحيض ، وقاس قوم الحجامة على الاستقاء ، لأنهما استخراج الفضلة من البدن . . وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائماً{[164]} .
قوله تعالى : { فَعدّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَر } يدل على جواز القضاء متتابعاً ومتفرقاً ، فإنه ذكر الأيام منكرة ، فإذا فرق فقد أتى بما اقتضاه الأمر ، وفهمنا أن تتابع صوم رمضان للشهر لا لنفس الصوم ، ولذلك لم يكن إفساد يوم منه مانعاً صوم الباقي ، وقد قال الله تعالى : { فَعِدّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَر } فدل على جواز التأخير من غير أن يتحدد بوقت ، وهو كالأمر المطلق الذي لا يتقيد بوقت ، ويجوز مفرقاً ومجموعاً . . والشافعي رأى تقييد القضاء بالسنة قبل دخول رمضان آخر وقال : إذا دخل رمضان آخر فدى عن كل يوم بمد ، ورواه عن ابن عباس وابن عمر .
فأما ما روي عن ابن عباس أن رجلاً جاء إليه فقال : مرضت رمضانين ، فقال ابن عباس : استمر بك المرض أو صححت فيما بينهما ؟ . . قال : بل صححت ، قال : صم رمضانين واطعم ستين مسكيناً . . وعن ابن عمر : أنه سئل عمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر ؟ . . قال : يصوم الذي أدركه ويطعم عن الأول كل يوم مداً من تمر ولا قضاء عليه ، وهذا يشبه مذهبه في الحامل والمرضع أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما ، وأقوال الصحابة على خلاف القياس قد يحتج بها . .
فقيل لهم فالقضاء بعد الصوم الآخر مأخوذ من قوله تعالى : { فَعِدةٌ منْ أيّامٍ أُخَر } ، واللفظ قد تناول الأوقات فلا يجوز أن يكون قد أوجب القضاء على قوم والفدية على قوم آخرين ، بل يقتضي أن يكون الحكم في الكل واحداً ، وغاية قول الصحابي على خلاف القياس ، أن يتوهم فيه توقيف ، مع احتمال كون احتجاجه بالتوقيف فاسداً وغلطاً ، فظهور هذا من كتاب الله تعالى أولى بالاعتبار والإتباع .
وذكر داود الأصفهاني{[165]} أن قضاء رمضان يجب على الفور ، وأنه إذا لم يصم اليوم الثاني من شوال أثم لأنه لو مات عصى ، وبنى عليه أنه لو وجب عليه عتق رقبة ، فوجد رقبة تباع بثمن ، فليس له أن يتعداها ويشتري غيرها ، لأن الفرض عليه أن يعتق أول رقبة يجدها فلا يجزيه غيرها ، ولو كان عنده رقبة فلا يجوز أن يشتري غيرها ، ولو مات الذي عنده فلا يبطل العتق كما يبطل فيمن نذر أن يعتق رقبة بعينها فماتت يبطل نذره ، وذلك يفسد قوله . .
وقد قال بعض الأصوليين : إذا مات بعد مضي اليوم الثاني من شوال لا يعصى على شرط العزم .
وقال الرازي أبو بكر إنه لا يعصى إلى السنة القابلة ، فإن آخر الوقت معلوم ، فبنى عليه أنه لو مات في خلال السنة لا يعصى ، فقدر القضاء بالسنة ، وذلك خلاف قول الجماعة ، وجعله كوقت الصلاة لما كان التأخير موسعاً عليه إلى آخره ، لم يكن مفرطاً بتأخيره إلى أن مات قبل مضي الوقت ، فكذلك قضاء رمضان .
وأجمعوا على وجوب الفدية إذا مات قبل مضي السنة لا لكونه عاصياً ، كما تجب على الشيخ الكبير ، وتجب الفدية أيضاً على من فاته صوم رمضان ومات في أول يوم من شوال . . .
قوله تعالى : { فَعدّةٌ مِن أيامٍ أُخَر } : استدل به قوم على أن المسافر لا صوم عليه ، لأن قوله : { فَعدَةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } يدل على أن الصوم للمسافر في الأيام الأخر ، ولم يقدروا الإضمار مثل قول أكثر العلماء : فأفطر فعدة من أيام أخر ، وهذا مذهب يروى عن أبي هريرة وقال به داود إلا أنه صح أن رسول الله صام في السفر . وعن عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أصوم في السفر ؟ . . فقال : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر{[166]} " . . وروى أبو سعيد الخدري وابن عباس وأنس وجابر وأبو الدرداء وسلمة ابن المحبق صيام النبي عليه السلام في السفر ، ومن خالف في هذا يدفع بظاهر قوله تعالى : { فَعِدةٌ مِنْ أيامٍ أُخَر } من غير فصل بين المفطر وبين الصائم . .
ورووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليس من البر الصوم في السفر{[167]} " . . ورووا عن الزهري عن أبي سلمة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر{[168]} " . وبحديث أنس عن النبي عليه السلام : " إن الله تعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم ، وعن الحامل والمرضع{[169]} " . .
ومن يخالف هؤلاء يقول : روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يظلل عليه والزحام عليه ، فقال : " ليس من البر الصيام في السفر " فجائز أن يكون كل من روى ذلك ، فإنما حكى ما ذكره النبي عليه السلام في تلك الحال ، وساق بعضهم ذكر السبب وحذفه بعضهم .
وذكر أبو سعيد الخدري ، أنهم صاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في رمضان ، ثم إنه قال لهم : " إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فافطروا " ، فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أبو سعيد الخدري : لقد رأيتني مع النبي عليه السلام أصوم قبل ذلك وبعده{[170]} ، فيجوز أن يكون الخبر ورد على سبب ، وهو حال لزوم القتال مع العلم بالعجز عنه مع فعل الصوم . ولأن قوله : " وأن تصوموا خير لكم " معطوف على كل من تقدم وبينهم المسافر والمريض . .
ثم إنه إذا صام أهل بلد تسعة وعشرين يوماً للرؤية ، وفي البلد رجل مريض لم يصم ، فإنه يقضي تسعة وعشرين يوماً . وقال قوم منهم الحسن بن صالح : إنه يقضي شهراً بشهر من غير مراعاة عدد الأيام ، وهذا بعيد لقوله تعالى : { فَعدةٌ مِنْ أيامٍ أُخَر } ولم يقل فشهر من أيام أخر .
وقوله : { فعدة } يقتضي استيفاء عدد ما أفطر فيه ، ولا شك في أنه لو أفطر بعض رمضان ، وجب قضاء ما أفطر بعدده ، كذلك يجب أن يكون حكم إفطار جميعه في اعتبار العدد . . .
وأجمع أصحاب أبي حنيفة على أنه إذا صام أهل بلدة ثلاثين للرؤية وأهل بلدة أخرى تسعة وعشرين ، أن على الذين صاموا تسعة وعشرين قضاء يوم ، وأصحاب الشافعي رحمه الله لا يرون ذلك ، إذ كانت المطالع في البلدتين يجوز أن تختلف . وحجة أصحاب أبي حنيفة قوله تعالى : { ولتُكْمِلوا العِدَّةَ } وثبت برؤية أهل بلد أن العدة ثلاثون فوجب على هؤلاء إكمالها ، ومخالفهم يحتج بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال : " صوموا لرؤيته . . " الحديث ، وذلك يوجب اعتبار عادة كل قوم في بلدهم . .
وروى الشافعي بإسناده عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام ، قال : فقدمت الشام ، فقضيت حاجتها ، فاستهل رمضان وأنا بالشام ، فرأينا الهلال ليلة الجمعة ، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر ، فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : ليلة الجمعة ، فقال : أنت رأيته ؟ . . فقلت : نعم ، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية ، فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصومه حتى يكمل الثلاثين أو نراه ، فقلت : أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ . قال : لا ، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم{[171]} ، فقيل على هذا : قوله " هكذا أمرنا " يحتمل أن يكون تأول فيه قول النبي عليه السلام : " صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته " .