قوله تعالى : { وإنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ }{[749]} [ 12 ] : قرىء : يورث بفتح الراء والتخفيف على ما لم يسم فاعله ، و قرىء : بكسر الراء والتخفيف وقد سمي فاعله .
فمن كسر نصب كلالة على المفعول به وجعلها اسماً للورثة وجعل الفاعل للتوريث هو الرجل الميت وجعل كان يعني وقع وحدث فلا يحتاج إلى خبر ، ومن قرأ بفتح الراء نصب كلالة على الحال من الضمير في يورث ، وهو ضمير الرجل ، وجعل الكلالة اسماً للميت ، وجعل كان يعني حدث ، ويحتمل أن يجعل كلالة خبراً لكان .
فلم يختلف العلماء في أن الكلالة اسم لمن لا ولد له ، واختلفوا في أنه هل هو اسم لمن لا ولد له ؟ فقال قائلون : هو اسم لمن لا ولد له ، فبنوا عليه أن أولاد الأم لا يرثون مع الأب ، لأن الكلالة اسم لمن لا ولد له ، فأما من له والد ، فليس خارجاً من الكلالة .
واعلم أن هذا يتصل به مسألة أخرى ، وهو أن الله تعالى يقول : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ في الكَلالَةِ{[750]} } الآية ، فجعل للأخوات من الأب والأم الثلثين ، وللواحدة النصف ، وذلك لا يتصور مع البنت والأب ، وسمى الله تعالى ذلك كلالة فقال : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُم في الكَلاَلَةِ } ، فأطلق اسم الكلالة ، ولا بد وأن يكون المعنى هاهنا : ليس له ولد ولا والد ، فإن المذكور من الميراث لا يتصور إلا عند فقد والوالد والولد ، ويدل على أن الكلالة اسم لمن لا والد له ولا ولد .
قوله تعالى : { ولأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فلأمه الثُلُثُ } ، يقتضي أن يكون ذلك الباقي للأب ، ثم قال : { فإنْ كَانَ لَهُ إخْوةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } ، فلم يجعل للإخوة ميراثاً مع الأب ، كما لم يورثهم مع الابن ، والابنة أيضاً ليست بكلالة كالابن ، فلا جرم أولاد الأم يسقطن بها ، لأنه تعالى شرط في توريث أولاد الأم أن يكون الميت كلالة ، أو الوارث كلالة ، فإن ترك بنتاً أو ابنتين وإخوة وأخوات لأم فالبنت ليست بكلالة ، فإن ترك بنتاً أو ابنتين وإخوة وأخوات لأم فالبنت ليست بكلالة ، فلا يستحق الأخوات الثلث .
واختلف أهل اللغة في اشتقاق الكلالة : فمنهم من قال : هو من قوله : كلت الرحم إذا تباعدت ، ولحت إذا قربت ، يقال هو ابن عمي لحا ، أي هو ابن أخي{[751]} ، وهو ابن عمي كلالة ، أي من عشيرتي ، قال الشاعر :
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة *** عن ابني منافٍ عبد شمس وهاشم
يعني ورثتموها بالآباء لا بالإخوة والعمومة .
ويمكن أن يكون مأخوذاً من الكلال وهو الإعياء ، ومنه قولهم : مشى حتى كل : أي بعدت المسافة فطال سيره حتى كل ، وكلَّ البعير إذ طال الطريق حتى أعيا ، وكلَّ السيف إذا طال الضرب به ، وكلت الرحم إذا ضعفت فطال نسبه ، فتكون الكلالة من بعد النسب وبعد القرابة . وقيل : أخذ من الإكليل المحيط بالرأس .
وروي عن عمر في الكلالة بعد النسب وبعد القرابة روايتان مختلفتان ، فتارة لا يجعل الوالد كلالة ، وتارة كان يجعله كلالة ، وردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر لما سأله عن الكلالة إلى آية الصيف{[752]} .
ولا شك أن عمر لا يخفى عليه معنى الكلالة من جهة اللغة ، وذلك يدل على أن معنى الكلالة شرعاً غير مفهوم من الاسم لغة ، ولذلك لم يجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر عن سؤاله في معنى الكلالة ووكله إلى استنباطه ، وفي ذلك دليل على جواز تفويض الإجماع إلى آراء المستنبطين ، كما فوضها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي عمر ،
وفيه دلالة على بطلان قول من يقول : لا يجوز استنباط معاني القرآن ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ{[753]} " ، فإن ذلك إنما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قال فيه بما سنح في وهمه ، وخطر على باله ، من غير استدلال عليه بالأصول ، وإن من استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفقة فهو ممدوح .
بقيت هاهنا دقيقة أخرى وهي خاتمة النظر ، وذلك أن الجد من حيث كان أصل النسب خارج عن الكلالة كالأب والابن ، وعليه بنى العلماء سقوط أولاد الأم به ، لأن الله تعالى شرط في ميراثهم عدم الولد والوالد ، وفقد الأصل والفرع ، ولا يتحقق ذلك مع الجد ، وموضع اشتقاق الكلالة يقتضيه أيضاً .
ولآجل ذلك قلنا إن آية الصيف تدل أيضاً على أن الجد خارج ، فإن الله تعالى شرط في وراثة الأخت نصف التركة أن تكون كلالة ، فلا جرم لا ترث النصف مع الجد ولا الأخ يرثها مع الجد بل يقاسمها ، والله تعالى أنما شرط الكلالة في استحقاق النصف فقط وذلك مشروط بعدم الجد .
ويدل عليه أن الكلالة لا تتناول البنت ، والأخت ترث مع البنت ، إلا أنها لا ترث على الوجه المذكور في آية الصيف وهو النصف ، وإنما ترث الباقي من نصيب البنت ، فهذا تمام معنى آية الكلالة ، وقد وردت في آية الصيف عدة أخبار تركنا ذكرها للاستغناء عنها في فهم معنى الآية .
ومما استنبطه العلماء من آية الكلالة بعد فهم معناها مسألة المشركة{[754]} ، وقد اختلف فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فروي عن علي إسقاط أولاد الأب والأم ، وروي عن زيد التشريك{[755]} .
ولا شك أن ظاهر قوله تعالى : { فإنْ كانوا أكثرَ مِن ذلكَ فهُمْ شُرَكاءَ في الثلُثِ } ، يتناول أولاد الأم جملة ، وقوله : { فإنْ كانَتا اثْنَتَينِ فَلَهُما الثُلثانِ مّما تَرَكَ{[756]} } ، يتناولهم من جهة الأب لا من جهة الأم ، فتعين الجمع بين الاثنتين ، فمتى أمكن التوريث بقرابة الأبوة ، وجبت مراعاتها لقوله تعالى : { إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيسَ لَهُ ولَدٌ ولَهُ أختٌ فلَها نِصفُ ما ترَكَ وهُوَ يَرِثُها إن لم يكن لها ولدٌ{[757]} } ، معناه يرثها بقرابة الأبوة ، وإن لم يكن التوريث بقرابة الأبوة ، وجب اتباع ظاهر قوله : { فَهُم شرَكاءَ في الثُلثِ } ، فأخذنا حكم التشريك والتعصيب من الآيتين الواردتين في حق الكلالة ، وذلك بيّن .
نعم إذا فرضنا زوجاً وأماً ، وأخاً من أم ، وإخوة من أب وأم ، فلولد الأم السدس ، والسدس الباقي بين أولاد الأب والأم ، لأن قوله تعالى : { وإن كانوا إخوَةً رِجالاً ونِساءً فلِلذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأنْثَيَينِ{[758]} } ، ينفي التوريث بالفرض ما أمكن التوريث بالعصوبة ، فإذا أمكن توريث بالعصوبة ، وجب اتباع الآية الأخرى .
ومن يخالف هذا المذهب يقول : إنما جعل الله تعالى الإخوة شركاء في الثلث مبنياً على قوله تعالى : { فلِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما السُّدُسُ } ، ولا يتصور استحقاق السدس هاهنا ، فتقدير الآية : للواحد السدس وللاثنين الثلث ، ولا يتصور ذلك في ولد الأب والأم ، فعند ذلك يضعف التعليق بالظاهر من حيث الاسم ، ويبقى التعليق من حيث المعنى ، وهو أنه لما جعلت قرابة الأمومة مورثة ، وقد وجدت العلة المورثة في حق الأب والأم ، فينجر الكلام عند ذلك إلى طريق المعنى .
وإذا ثبت الاستنباط من الكلام في مسألة المشركة ، فالأخت مع البيت عصبة عند جماهير العلماء .
وقيل لابن عباس وابن الزبير : إن علياً وعبد الله وزيداً يجعلون الأخوات مع البنات عصبة ، فقال : " أنتم أعلم أم الله ؟ " ، يقول الله عز وجل : { إنِ امْرؤ هَلكَ ليسَ لهُ ولدٌ وله أختٌ فلَها نِصفُ ما ترَكَ } ، فجعل لها النصف عند عدم الولد ، فكيف تجعلون لها مع الولد النصف ؟
وعامة العلماء يرون معنى الآية : إن امرؤ هلك ليس له ولد ذكر ، ولذلك قال : { وهُوَ يَرِثُها } يعني الأخ ، ولا شك أن الأخ يرث مع البنت ، ومثله قوله تعالى : { ولأبَويهِ لكُلِّ واحدٍ مِنهُما السُّدُسُ ممَا ترَكَ إن كانَ لهُ ولَدٌ } ، ومعناه عند الجميع : إن كان له ولد ذكر .
ولا خلاف بين الصدر الأول ومن بعدهم من الفقهاء ، أنه لو ترك ابنة وأبوين ، أن للبنت النصف وللأبوين السدسان والباقي السدسان والباقي للأب ، ولو ترك ابنة وأبا فللبنت النصف وللأب النصف ، وقد أخذ في هاتين المسألتين مع الولد أكثر من السدس . والسر في ذلك أن الذي تأخذه الأخت بعد أصحاب الفرائض ، ليس هو النصف الذي كان مفروضاً لها ، إذا لم يكن ولد ، فإن ذلك فرض ، وهذا مأخوذ بالتعصيب ، لأنها عصبة فتأخذ الباقي ، فتارة يكون الباقي نصفاً ، وتارة أقل من ذلك ، وربما ترك الميت ابنتين فصاعداً فتأخذ الأخت ما بقي بعد الثلثين ، وربما كان مع الأخت أخواتها ، فيأخذون جميع ما يبقى ، فعلم به أن الذي تأخذه الأخت في هذا الموضع ، إنما تأخذه بمعنى غير المعنى الذي كان فرض لها مع البنت . فإن كان المعنى الذي تأخذ به في هذا الموضع غير ذلك المعنى ، لم يدخل أحد المعنيين على الآخر ، وكان لكل واحد منهما معنى حكم على جهته .
نعم بنت الابن لا تستحق الباقي بعد بنتي الصلب ، لأن الجهة واحدة في البنت وبنت الابن ، وأما الجهة فمختلفة هاهنا . وليس يمكن إسقاط أولاد الابن{[759]} مع مشابهتهم لأولاد الصلب في تعصيب الأخت وغيره ، وإعطاء الأبعد ، وليس يمكن الترتيب في الفرض ، فدعت الضرورة الى تعصيبهن{[760]} ، هذا تمام ما يقال في هذا الباب .
فإن قال قائل : فهلا قلّتم لابنة الابن ما يبقى بعد بنتي الصلب ؟ وإن بنت الابن في ذلك أولى من ابن ابن العم البعيد ، فإنها تدلي ببنوة الميت ، وابن العم يدلي ببنوة جد الميت ، وشتان ما بينهما ، فإن قلتم : لا شيء لها ، علم أن ذا الفرض لا يصير عصبة ، مخافة صرف المال إلى من هو أبعد منه في القرابة ، فكذلك الإلزام في الأخت من الأب مع الأختين للأب والأم ، فإنه لا يصرف إليها الباقي بعد الثلثين بحكم العصوبة ، تقديماً لقرابتها على قرابة ابن العم ، وهذا سؤال حسن .
والجواب عنه : أن السبب في ذلك أن الله تعالى شرع فرض البنات جملة واحدة ، سواء كن بنات صلبة أو بنات ابنه ، فجعل غاية حقهن الثلثين ، جعل غاية حق الأخوات سواء كن لأم وأب أو لأب الثلثين ، ودل عليه مطلق قوله تعالى : { ليسَ لهُ ولَدٌ وله أختٌ فلَها نِصفُ ما تَركَ } إلى قوله : { فإن كانَتا اثْنَتَينِ فَلَهُما الثلُثانِ ممّا ترَكَ }{[761]} الآية ، فوقعت الفريضة لهم جملة ، لأنهم جميعاً ولد الميت أو ولد أبى الميت ، فإذا كان ذلك كمال حقهم من التركة ، يقع الكلام منهم بعضهم مع بعض في البداية ببعضهم على بعض ، فإذا استوفى الأخوات للأب وللأم حصصهم ، كان الباقي للعصبة لأنهم يقولون لأولاد الأب : سواء علينا كنتم لأب وأم ، أم كنتم لأب وقد استوفى فرض الأخوات ، فليس لكن بعده شيء ؟ وإن كان هناك أخ لأب سقط كلام العصبة ، لأن الإخوة يقولون : أنتم لا حق لكم مع أخ لأب بوجه ، فإنه ذكر عصبة لا يأخذ ما يأخذه بفرض الإناث .
السؤال : على هذا من أوجه : أحدها : أنه إن صار نصيب الأخوات من الأب مستوفى في فريضة الأخوات للأب والأم وليس يبقى بعد ذلك لهن حق في الميراث ، فلم تأخذ الأخت للأب مع أخيها{[762]} ، وهلا قال لها الأخ : قد صارت حصتك مستوفاة في ميراث الأخت للأب والأم ، فلا حق لك أصلاً بوجه من الوجوه ، فلا جرم صار ابن مسعود إلى أن الباقي للأخ دون الأخت ، وأبى ذلك غيره حتى قال زيد بن ثابت : هذا من قضاء أهل الجاهلية ، أي إنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث ، إلا أن ابن مسعود يقول : أنا أورث الإناث ، ولكن نصيبهم مستوفى في ميراث أولاد الأب والأم ، فهذا تمام هذا القول في الاعتراض .
الوجه الثاني في الاعتراض ، أن قول القائل إن ميراث أولاد الأب صار مستوفى لا وجه له ، فإن حقهم لا يصير مستوفى لغيرهم ، وكل من يحجب شخصاً ، لا يقال صار ميراثه مستوفى للحاجب ، بل يقال : لا ميراث للمحجوب مع الحاجب ، فإذا تقرر ذلك فالثلثان لأولاد الأب والأم وبنات الابن معهن ، ويبقى النظر بعد ذلك في أنهم حجبوا بمن فوقهم ، فلم يحرمون من دونهم مثل مسألتنا سواء ؟
الوجه الثالث : أنه لو جاز أن يقال هذا ، جاز أن يقال : إن ميراث أولاد الأب شبيه بميراث أولاد الميت في الثلثين والنصف ، وتعصيب الأخ للأخت ، فيمكن أن يقال من أجل ذلك إنه ميراث الولادة ، إلا أنه ولادة أب الميت ، ولذلك تشابه الميراث ، فإذا أخذت البنات الثلثين ، صار حق الأولاد مستوفى على أبلغ الوجوه وهو ولادة الميت ، وميراث أولاد أبي الميت من جنس ذلك بلا شك ، فيصرف الفاضل إلى العصبة .
الجواب عن السؤال الأول : أن الأخت إنما تأخذ مع أخيها بجهة أخرى غير الجهة التي يستحق بها الأخوات الفرض ، كما تأخذ بنت الابن مع ابن الابن ما يبقى ، وإن وجد بنتا الابن .
فإن قلت : فلم يعصبها أخوها كما يعصب ابن الابن أخته ؟ ولعل المعنى فيه أنها تقول نحن استوينا في القرب ، وإنما لك فضل بالذكورة ، فالمال بيننا على تلك النسبة ، إذ يبعد أن يأخذه الأبعد في الدرجة بحكم البنوة ، أو من في درجتها وهي لا تأخذ ، أو يقال : إن قوة عصوبة الابن اقتضت فعصبت أخته ، وقد بعدت تلك القوة إلى أولاد الأب وإن تقاصرت عنه في بعض الوجوه ، فكان التعصيب لهذا المعنى ، وإذا ثبت التعصيب اختلفت الجهة ، فلم يكن توفية ميراث الأخوات بالفرض مانعاً جهة أخرى يستحق بها الميراث ، وهذا بيّن .
والجواب عن الفصل الثاني ، وهو قولهم إن ميراث أولاد الأب لا يصير مستوفى ، فإنهم محجوبون ، وإنما ذلك حق أولاد الأب والأم ، فالأمر كذلك على بعض الوجوه ، غير أن الذي قلنا إنه ليس لأولاد الأب الإناث أكثر من هذا القدر الصحيح ، والذي قالوه ثالثاً إنه ليس لأولاد الأب إلا ما يشبه ميراث الأولاد ، فهو الكلام الواقع ، وما ذكروه من تشابه الميراثين فكمثل ، ولكن مع هذا إذا فرضنا بنتاً وأختاً ، لم نقل إن الأخت تأخذ مكملة الثلثين ، مثل ما يقال في الأخت من الأب مع الأخت من الأب والأم ، وذلك يدل على وجه على افتراق الميراثين .
واعلم أن هذا كله تعلل ، والأصل فيه التوقيف ، وهو ما روي هزيل ابن شرحبيل أن أبا موسى الأشعري سئل عن رجل ترك ابنته وابنة ابنه وأخته لأبيه وأمه ، فقال : لبنته النصف ، وما بقي فللأخت من الأب والأم ، وقال : ائت ابن مسعود فسيقول مثل ما قلت ، فسأل ابن مسعود عن ذلك وأخبره بما قال أبو موسى ، فقال ابن مسعود : وكيف أقول ما قال أبو موسى وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : للابنة النصف ، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين ، وما بقي فللأخت من الأب والأم{[763]} .
وروى أبو حسان عن الأسود بن يزيد الكوفي ، أن معاذ بن جبل وهو على اليمن ورث مال رجل توفي وترك ابنته وأخته ، فجعل للابنة النصف ولأخته النصف ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي يومئذ{[764]} ، وروى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود قال : كان ابن الزبير يقول في بنت وأخت : المال للبنت ، فقلت له : إن معاذاً قضى فينا باليمن للبنت النصف وللأخت النصف الباقي ، فقال ابن الزبير ، فأنت رسولي إلى ابن عتبة - وكان قاضية على الكوفة - مرة فليأخذ بذلك ، فترك ابن الزبير قوله لما جاءه ما لم يمكن دفعه{[765]} .
فصل : اعلم أن الله تعالى قال في ميراث الإخوة : { وهوَ يرِثهَا إنْ لمْ يكنْ لها ولَدٌ{[766]} } ، فجعل الأخ عصبة ، ولم يفصل بين الأخ من الأب والأم ، والأخ من الأب ، وجعل للأخت مطلقاً النصف ، وللأختين الثلثين ، سواء كن من الأب أو من الأب والأم ، ولم يفرد قرابة الأمومة ، لا في حق الأخ ولا في حق الأخت ، ولو انفردت قرابة الأمومة عن قرابة الأبوة ، لكان للأخت من الأب والأم الثلثان : النصف بقرابة الأبوة ، والسدس بقرابة الأمومة ، وذلك كل المال ، فإذا ثبت ذلك ، علم به اتحاد القرابتين في حقه في استحقاق مقدار المال ، ورجعت زيادة قرابة الأمومة إلى تأكيد قرابة الأبوة ، حتى تقدم على ولد الأب ، وتنزل زيادة قرابة الأمومة ، منزلة زيادة درجة العصبات مثل الابن وابن الابن .
فإذا تبين ذلك ، فإذا فرضنا ابني عم ، أحدهما أخ لأم ، لم تتحد قرابة الأمومة ببنوة العم ، بل لمن اجتمعت فيه القرابتان ، السدس بقرابة الأمومة ، والباقي بينه وبين ابن عمه ، وقال عمر وابن مسعود : المال للأخ من الأم ، ولم يختلفوا في الأخوين لأم ، أحدهما ابن عم ، أن لهما الثلث بنسب الأم ، وما بقي فلابن العم خاصة .
وفي المسألة الأولى شبهوا بأخوة الأم وأنها تتحد بأخوة الأب ، وهذا بعيد ، فإن الجهة هناك واحدة ، واختلف الجهة فيما نحن فيه ، والأصل نفي الاتحاد بين الجهتين وتوفير مقتضى كل علة عليها ، إلا ما كان مستثنى في حق الإخوة ، والنافي منفي عن أصله .
إذا ثبت الحكم في هذه المسائل فقد قال تعالى : { مِن بعدِ وصِيّةٍ يوصى بها أوْ دَيْنٍ{[767]} } ، قدم الوصية على الدين في ثلاثة مواضع . . نعم أفاد بقوله : " أو " نفي اعتبار جمع الأمرين ، فإنه لو قال : " من بعد وصية ودين " بالعطف ، لا أحتمل أن يقال : يعتبر وجود الأمرين ، وإذا قال : " أو دين " ، علم به أن اجتماعهما لا يعتبر ، ومثله قوله تعالى : { ولا تطِعْ مِنهُم آثماً أوْ كَفوراً{[768]} } ، أي لا تطعهما ولا كل واحد منهما ، ومثله قول القائل : جالس الحسن أو ابن سيرين ، هو أما بمجالستهما أو مجالسة أحدهما ، فإذا قال : جالس الحسن وابن سيرين ، احتمل أن يكون قد أمر بمجالستهما مجتمعين ومنفردين .
يبقى أن يقال : إنه تعالى قدم الدين على الوصية ، فيقال : إن المراد به استثناؤهما من جملة الميراث ، وهما بالإضافة إلى التركة واحد ، فإنهما مقدمان على حق الورثة ، وليس يظهر أثر التقديم بالإضافة إلى الورثة ، وإنما تتفاوت الوصية والدين في أنفسهما عند قطع النظر عن حق الورثة ، وليس في الآية تعرض لذلك ، وهذا بين ، وكأنه تعالى ذكر الوصية قبل الدين ، لأن الوصية أغلب وأكثر من الدين ، فإنه قد يموت كثير ولا دين عليه ، ولا يموت الإنسان غالباً إلا و يكون قد أوصى بوصية ، ولأن قضاء الدين من التركة كان مشهوراً ، ولعل الحاجة إلى بيان الوصية كان أكثر وأظهر ، وعن علي رضي الله عنه قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية وأنتم تقرءونها من بعد وصية يوصى بها أو دين{[769]} .
واعلم أن قوله تعالى : { مِن بعدِ وصيةٍ يوصى بها أو دَيْنٍ } ، لا يقتضي اختصاص الوصية ببعض المال ، كما لا يقتضي ذلك في الدين ، إذ ظاهره العموم ، إلا أن الخبر الصحيح ورد عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبيه ، قال : مرض أبي مرضاً شديداً أشفى{[770]} منه ، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا كلاله ، أفأتصدق بالثلثين ؟ قال : لا ، قال : فالشطر ؟ قال : لا ، قال ، فالثلث ؟ قال : الثلث والثلث كثير ، إنك أن تترك ورثتك أغنياء ، خير من أن تدعهم يتكففون وجوه الناس ، وإنك إن تنفق نفقة إلا أجرت فيها ، حتى اللقمة ترفعها إلى فيّ امرأتك ، فقلت : يا رسول الله ، أتخلف عن هجرتي ؟ قال : لن تخلف بعدي ، فتعمل عملاً تريد به وجه الله تعالى ، إلا تزداد رفعة ودرجة ، لعلك أن تخلف فينتفع بك أقوام ويضرُّ بك أقوام آخرون ، ثم قال : اللهم امضِ لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم{[771]} لكن البائس سعد بن خولة يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة .
فدل الخبر على أن الزيادة على الثلث غير جائزة ، فإن النقصان عن الثلث مستحب ، ودل به على أنه إذا كان قليل الحال وورثته فقراء ، فالمستحب أن لا يوصي أصلاً ، وفيه دليل على أن الصدقة في المرض وصية غير جائزة إلا من الثلث ، لأن سعداً قال : أتصدق بجميع مالي ؟ فقال : لا ، إلا أن يرده إلى الثلث .
وقول سعد : أتخلف عن هجرتي ؟ . . معناه أنه يموت بمكة وهي داره التي هاجر منها إلى المدينة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى المهاجرين عن أن يقيموا بعد النفر أكثر من الثلاث ، وهاجر سعد مع النبي صلى الله عليه وسلم وتخلف بعده ، حتى نفع الله به أقواماً وضرَّ به آخرين ، وفتح الله على يديه بلاد العجم وأزال ملك الأكاسرة .
وإذ قال تعالى : { مِن بعدِ وصِيّة يوصى بها أوْ دين } : فيدل ظاهرة على أن كل من كان عليه ما يسمى ديناً ، فلا يأخذ الوارث تركته ، ومساق ذلك أن دين الزكاة يؤخذ من ماله بعد الموت ، وكذلك الحج ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه دين الله وجعله أحق الديون . ومن الجهالات قول الرازي إن ذلك دين الله ، فلا يفهم من مطلق اسم الدين ، فإن الاختلاف في المضاف إليه لا في اسم الدين . ولو قال قائل دين الآدمي ينطلق عليه اسم الدين لأنه مضاف إلى الآدمي ، كان مثل ذلك .
ومطلق قوله " يوصي " : لا فصل فيه بين الوصية للوارث والأجنبي ، إلا أن الأخبار قيدت بالوصية للأجنبي{[772]} على ما رواه الفقهاء في كتبهم ، ودل الإجماع أيضاً عليه .
ومطلق قوله تعالى : { مِن بعدِ وصيّةٍ } : يقتضي التسوية بين مقدار الثلث وما فوقه ، إلا أنه إذا كان هناك وارث معين استثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " إنك لا تدع ورثتك أغنياء " الحديث .
فإذا لم يكن وارث معين بقي عند أبي حنيفة على موجب العموم ، إلا أن الشافعي رضي الله عنه يقول : قوله : { يوصى بها أوْ دَيْنٍ } ، ما ورد إلا في موضع الوراثة ، ولم يرد مطلقاً ، كيف يمكن الاستدلال بعمومه ، وهذا قاطع في منع الاستدلال بعموم الآية في الوصية ، وإذا لم يمكن ذلك ، يبقى لنا أن الأصل امتناع إضافة التصرف إلى ما بعد الموت إلا بقدر ما استثنى ، وقد شرحنا ذلك في مسائل الخلاف ، وإنما مقصودنا بهذا الكتاب البحث عن معاني كتاب الله .
قوله تعالى في مساق الوصية : { غَيرَ مُضارٍ } ، أي غير مضار بالوصية ، وذلك بأن يوصي بأكثر من الثلث .
وقوله تعالى : { غَيرَ مُضارٍ } : يمتنع التعلق بعموم آية الوصية فيما يقع التنازع فيه ، فإنه لا يدري أنه من قبيل المضارة أم لا ، فيمتنع التعلق بعمومه لمكان الاستثناء المبهم ، وهذا بين في منع التعلق بالعموم في الوصية .
ومما يتعلق بمعاني الآية أن عموم قوله تعالى : { يوصِيكُم اللهُ في أولادِكُم } ، مع ذكر الزوجة والإخوة والأخوات ، يدل على ميراث القاتل والرقيق والكافر ، غير أن الأخبار الخاصة منعت منه ، وإذا صار مضمون الخبر مقدماً ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يتوارث أهل ملتين شتى{[773]} " . ولم يختلف الناس في أن الكافر لا يرث المسلم . نعم ، نقل عن معاوية أنه ورث المسلم من قريبة الكافر . وقيل هو قول معاذ .
وإذا كان قوله عليه الصلاة والسلام : " لا يتوارث أهل ملتين شتى " قاضياً على عموم الآية في حق الكافر الأصلي والمسلم ، قضى عليه في حق المرتد حتى لا يرثه المسلم{[774]} .
وقال ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والأوزاعي في إحدى الروايتين : ما اكتسبه المرتد بعد الردة فهو لورثته المسلمين . وقال أبو حنيفة : ما اكتسبه المرتد في الردة فهو فيء ، وما كان مكتسباً في حال الإسلام ، ثم ارتد يرثه ورثته المسلمون إذا قتل على الردة عند أبي حنيفة ، ولا يورث عنه ما اكتسبه في الإسلام .
وأما ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد ، فلا يفصلون بين الأمرين ، ومطلق قوله عليه والسلام : " لا وراثة بين أهل ملتين شتى " ، يدل على بطلان أقوالهم ، ثم انتزاع معاني الفرائض من آيات المواريث .