قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللهُ في أوْلادِكُمْ } الآية [ 11 ] : اعلم أن الناس في الجاهلية كانوا يخصصون الذكور المقاتلين على الخيل والذابين عن الحرم بالميراث ، وما كانوا يورثون الصغار ولا الإناث ، وقد ورد في بعض الآثار ، أن الأمر كان على ذلك في صدر الإسلام ، إلى أن نسخته هذه الآية ، ولم يثبت عندنا اشتمال الشريعة على ذلك ، بل ثبت خلافه ، فإن هذه الآية نزلت في ورثة سعد بن الربيع ، حين جاءت امرأة بابنتها من سعد فقالت : يا رسول الله : هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما معك يوم أحد وقد استوفى عمهما مالهما ، وإن المرأة لا تنكح إلا ولها مال ، فنزلت هذه الآية{[716]} .
وقيل : نزلت في ورثة ثابت بن قيس بن شماس ، والأول أصح عند أهل النقل{[717]} ، فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الميراث من العم ، ولو كان ثابتاً من قبل في شرعنا ما استرجعه ، ولم يثبت قط في شرعنا أن الصبي ما كان يعطى الميراث حتى يقاتل على الفرس ، ويذب عن الحريم .
واعلم أن الميراث كان يستحق في أول الإسلام بأسباب : منها : الحلف والتبني والمعاقدة{[718]} : ومنه قوله : { والّذينَ عَقَدَتْ أيمانُكُم فَآتُوهُم نَصِيبَهُم{[719]} } .
وقال آخرون : ما كان الميراث ثابتاً قط بالمعاقدة ، والذي في القرآن من قوله : { والّذينَ عَقَدَتْ أيمانُكُم فَآتُوهُم نَصِيبَهُم } من الموالاة والنصرة والمعافاة والمشورة .
نعم هذا الخيال إنما نشأ من شيء ، وهو أن الله تعالى قال : { وأولُوا الأرْحامَ بَعضُهُم أوْلى ببَعْضٍ في كِتابِ اللهِ مِنَ المؤمِنينَ والمُهاجرينَ إلاَّ أن تَفْعَلوا إلى أوْلِيائِكُم مَعْروفاً{[720]} } ، فظنوا أن الآية دلت على ثبوت الميراث بوجه آخر ، وليس الأمر كذلك ، فإن المراد بذلك : وأولوا الأرحام أولى من المؤمنين ، فإن المؤمنين ورثة ، إذ المراد ذوو الأرحام .
وقوله : { إلاَّ أن تَفعَلوا إلى أولِيائِكُم مَعروفاً } : الوصية ، وإلا فلا ثبوت للميراث بالمعاقدة من جهة النص ، والآثار متعارضة ، والذي في القرآن : { والّذينَ آمَنوا ولَم يُهاجِروا مالَكُم مِن وَلايَتهِم مِن شيءٍ{[721]} } ، إنما عنى به في الميراث بالإسلام ، إذا لم تكن قرابة ، فإن الشافعي رضي الله عنه ، يرى المسلمين ورثة في ذلك الوقت ، ما كان الإسلام كافياً في هذا المعنى دون المهاجرة مع الإسلام ، وإلا فلا وجه لدعوى من يدعي أن المحالفة المجردة ، أو الهجرة المجردة ، مورثة مع وجود الهجرة في حق ذوي الأرحام والعصبات ، إذ جائز أن يكون قوله : { فآتوهُم نَصِيبهُم } أي : آتوهم نصيبهم من الوصية ، ولعله كانت الوصية واجبة لهؤلاء ، ثم نسخت الوصية ، والأول أظهر .
وأبو حنيفة يرى التوريث بالحلف والمعاقدة ، ويقول : إن حكمها ما نسخ ، ولكن جعلت الرحم أولى منها ، فهو يرى أن الأسباب التي يورث بها شتى ، فمنها الإسلام ، ومنها المعاقدة والتآخي في الدين ، والاتحاد في الديوان ، وفوقها الولاء ، وفوقها الزوجية ، وكان الرجل إذا مات اعتدت امرأته سنة كاملة في بيته ، ينفق عليها من تركته ، وهو قوله : { والّذينَ يُتَوفّوْنَ مِنكُم } - إلى قوله { مَتاعاً إلى الحَوْلِ }{[722]} ثم نسخ ذلك بالربع والثمن .
وقوله : { يُوصِيكُمُ اللهُ في أولادِكُم } : نسخ به وجوب الميراث للذين ذكر ميراثهم في كتاب الله تعالى ، والأقربون الذين ليسوا بوارثين ، فأبان دخولهم تحت اللفظ تعيناً ، ولكن اللفظ عموم في حقهم ، فلم يتبين قطعاً وجوب الوصية لأولئك النفر ، الذين لم يبين الله ميراثهم ، فلا نسخ من هذا الوجه ، وإنما هو تخصيص عموم ، والدليل عليه أن كل الميراث لهؤلاء المذكورين ، وما قال الشرع للعصبة كل الميراث وللبنتين الثلثان ، بل كان يقال : للوصية قسط واجب ، فما يفضل عنها فهو لكذا ، ولم يتبين وجوب الوصية في هذه الآية بل قال : { مِن بَعدِ وصِيّة يُوصَى بها أوْ دَين } ، وربما كان الدين أو لم يكن ، وربما كانت الوصية أو لم تكن ، فهذا تمام ما يتعلق بهذا النوع .
قوله تعالى : { يوصيكُمُ اللهُ في أولادِكُم } : حقيقة في أولاد الصلب فأما ولد الابن فإنما يدخل فيه بطريق المجاز ، وإذا حلف لا ولد له وله ولد ابن لم يحنث{[723]} ، فإذا أوصى لولد فلان ، لم يدخل فيه ولد ولده ، وأبو حنيفة يقول : إنه يدخل فيه إن لم يكن له ولد صلب{[724]} ، ومعلوم أن حقائق الألفاظ لم تتغير بما قالوه .
وقوله : { للذَّكرِ مِثلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ } : ليس فيه تقدير ميراث كل واحد منهم ومبلغ ما يستحقه ، بل فيه أن ما كان من قليل أو كثير فبين الأولاد على هذه النسبة ، وذلك يتناول ما فضل عن أصحاب الفرائض ، وما يأخذون من جميع المال إذا لم يكن صاحب فرض .
وإذا لم يكن في ميراثهم تحديد ، فالذي يصل إليهم هو تمام حقهم قل أو كثر ، وذلك يقتضي تقديم أصحاب الفرائض ، فإنه لو لم يفعل ذلك لم يكمل لهم حقهم ، وإذا قدم وفضل شيء ، فقد استوفى العصبة تمام حقه ، فهذا وجه البداية بأصحاب الفروض .
قوله تعالى : { فإنْ كُنَّ نساءً فَوْقَ اثْنَتَينِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا ما تَرَكَ وإن كانَت واحِدةً فَلَها النِّصفُ } [ 11 ] : ولم يبين حكم الاثنتين ، فنقل عن ابن عباس أن الآية نص قاطع في أن لا يزاد منه بسبب الثلثين شيء{[725]} ، فإن قوله : { فَوْقَ اثْنَتَينِ } تقييد نصاً ، ونفي لما دون هذا العدد .
قال قائلون من العلماء : إن بيان الاثنتين كان ظاهراً في كتاب الله تعالى ، وإنما احتاج إلى بيان أن الثنتين فصاعداً لا يزيد حقهم على الثلثين ، فكان قوله : { فَوْقَ اثْنَتَينِ } لنفي المزيد . ووجه دلالة الآية على بيان حكم الاثنتين ، أن الله تعالى لما أوجب للبنت الواحدة مع الابن الثلث ، فإذا كان لها مع الذكر الثلث ، فلأن لا تنقص من الثلث مع البنت أولى ، ولو جعلنا للبنتين النصف ، نقصت حصة الواحدة من الثلث .
ويمكن أن يعترض على هذا فيقال : إنما استحقت الثلث مع الذكر ، لا لأن المأخوذ ثلث التركة التامة ، بل لأنها عصبة بأخيها ، والمال بينهما أثلاث ، ولا يأخذان إلا ما بقي ما حالة ، وكل المال في حالة . . أما البنت فتأخذ مقداراً من جملة التركة من غير نقصان من نصف الجملة ، وذلك مقيد بشرط ، فإذا لم يوجد الشرط لم يثبت القدر ، ويدل عليه أنه لو قال قائل : الابن ربما أخذ أقل من نصف التركة ، والبنت لا تأخذ أقل من نصف جميع التركة ، فيقال : لأن الابن عصبة فيأخذ ما بقي ، والبنت صاحبة الفرض ، وهذا بيّن . ومما ذكره العلماء في ذلك ، أن الله تعالى قال : { لِلذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأنْثَيَينِ } فلو ترك بنتاً وابناً ، كان للابن سهمان ثلثا المال ، وهو حظ الأنثيين ، وهذا مثل الأول .
والاعتراض عليه كما مضى ، فإن الابن لا يستحق ثلثي جميع التركة ، بل يستحق بالعصوبة أي قدر ، وتلك العصوبة تشمل الذكر والأنثى ، والمال بينهما على نسبة التفاوت . وأقوى ما قيل فيه ، أن الله تعالى جعل للأختين الثلثين في نص الكتاب فقال : { فَإن كانَتا اثْنَتَين فلَهُما الثُّلُثانِ مِمّا تَرَك{[726]} } ، ومعلوم أن أولاد الميت أولى من أولاد أب الميت ، فدل أن بيان الاثنتين مقدر في كتاب الله تعالى ، واحتيج إلى بيان نفي المزيد على الثلثين عند زيادة عدد البنات ، ولم يتعرض لهذا المعنى في ميراث الأخوات ، لأن فيما ذكر من ميراث البنات بيان ذلك ، ولم يذكر بيان البنتين في ميراث البنات ، لأن فيما ذكر من ميراث الأخوات بيان ذلك ، فاشتملت الآيتان على بيان نفي المزيد عند زيادة العدد ، وعلى بيان ميراث البنتين ، وهذا غاية البيان{[727]} . واستدلوا أيضاً على ذلك بما روي عن ابن مسعود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت ، وبنت ابن ، وأخت ، بأن للبنت النصف ، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين ، والباقي للأخت ، فإذا كان للبنت مع ابنة الابن من التركة الثلثان ، فالبنتان أحق بذلك وأقرب ، لأنهما أقرب من بنت الابن ، وإن أمكن أن يعترض على هذا ، فإن الذي لبنت الابن فرض آخر ، وليس من ميراث البنت في شيء ، وإنما الكلام في أن النصف إذا كان للواحد ، فهل يزداد ذلك لسبب وجود بنت أخرى ، أو يتقاسمان ذلك النصف ، فأما السدس فلا تعلق له بفريضة البنت أصلاً ، وإنما اتفق أن المبلغين صارا إلى مقدار الثلثين .
وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركة سعد بن الربيع ، للبنتين الثلثين وللزوجة الثمن ، والباقي لأخته{[728]} وقضى بذلك في ابنتي ثابت بن قيس بن شماس{[729]} .
والآية ليست نصاً في نفي ما دون الثلثين عما دون الثلاث من البنات ، بل محتملة ما ذكرناه{[730]} .
وقد قيل : قوله " فوق " صلة وتأكيد ، كأنه قال : " فإن كنَّ نساء اثنتين " ومثله : { فاضرِبوا فوقَ الأعْناقِ{[731]} } ، وهذا تأويل بعيد ، وما ذكرناه أولاً هو الصحيح ، ومما دلت الآية عليه أنه لما لم يبين مقدار ميراث البنتين ، عرفنا من قوله تعالى في حق الأخ { وهُوَ يَرِثها إنْ لم يكُن لها ولَد{[732]} } ، أن الأخ لما جعل عصبة حائزاً للميراث مطلقاً ، فالابن بذلك أولى .
وجملة القول فيه أن الله تعالى لما بين كيف يقتسم الذكور والإناث ، لم يحد ميراثهم بحد ، لأنهم يرثون المال مرة جميعه ، ومرة ما فضل عن فرض ذوي السهام ، ولو حد لهم حداً لضاربوا ذوي السهام إذا ضاق المال عن حمل السهام ، ولا يزيدوا عليه إذا انفردوا ، وتحرجوا عن حكم من يرث بالتعصيب إلى حكم من يرث بالفرض ، فهذا بيان معنى التعصيب في ميراث{[733]} .
قوله تعالى : { ولأبَويْهِ{[734]} لِكُلِّ واحدٍ مِنهُما السُّدُسُ مِمّا ترَكَ إن كانَ لهُ وَلَدٌ } [ 11 ] : فظاهره يقتضي أن يكون لكل واحد منهما السدس مع الولد ، ذكراً كان أو أنثى ، فيقتضي ذلك إلى{[735]} إنه إذا كان الولد بنتاً فلها النصف ، ولا تستحق أكثر من النصف لقوله : { وإن كانَتْ واحدَةً فَلَها النِّصْفُ } .
فوجب بحكم الظاهر أن يعطي الأب السدس لقوله : { ولأبويهِ لِكُلِّ واحدٍ مِنهُما السُّدُسُ } ، ويبقى السدس يستحقه الأب بحكم التعصيب ، فاجتمع للأب الاستحقاق من جهتين : التعصيب والفرض ، وإن كان الولد ذكراً فللأبوين السدسان بحكم النص ، والباقي للابن لأنه أقرب العصبات من الأب ، فخرجت منه مسألة البنت والأبوين ، وما ذكره الفرضيون من الجمع للأب بين الفرض والتعصيب .
وقال عز وجل : { فإنْ لَم يَكُنْ لَهُ ولدٌ وَوَرِثهُ أبَواهُ فلأمِّهِ الثُلثُ } ولم يذكر نصيب الأب ، فاقتضى ظاهر اللفظ أن للأب الثلثين ، إذ ليس هناك مستحق غيره ، وقد أثبت لهما أولاً ، فاقتضى ظاهر اللفظ المساواة لو اقتصر على قوله : { وَوَرِثَهُ أبَواهُ } ، دون تفصيل نصيب الأم ، فلما ذكر نصيب الأم{[736]} ، دل على أن للأب الثلثين ، وهو الباقي بحكم العصوبة ، وبين الله تعالى ميراث الأم مع الأب ، وفرض لغيرها من الورثة عند الانفراد مثل البنت والأخت وغيرهما من أصحاب الفروض ، كالزوج والزوجة .
والحكمة فيه : أنه عز وجل أراد أن يبين حجبها بمن لا يرث في قوله : { ولأبَوَيْهِ } إلى قوله : { فإنْ كانَ لَهُ إخوةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ } ، فلو ذكر ميراثها منفردة ، لاحتمل أنها لا يحجبها من لا يرث مثل الأخوة مع الأب ، فأزال هذا الإشكال ، وأفاد هذه الفائدة ، حتى لا يتوهم أن الذي لا يرث{[737]} بحاجب الأشخاص ، كالأخوة الذين يحجبون بالأوصاف مثل القتل والرق والكفر ، فهذا بيان هذا المعنى .
ثم قال تعالى : { فإنْ كانَ لهُ إخوةٌ فلأمُّه السُّدُسُ } وقد حجبها جماهير العلماء بأخوين ، وانفرد ابن عباس ، فاعتبر في حجبها من الثلث إلى السدس{[738]} ، ولا شك أن ظاهر قوله : { فإنْ كانَ لَهُ إخْوةٌ } ، يقتضي أن ما دون ذلك وضعت العرب له اسم التثنية ، وقد غايرت العرب بين المنزلتين ، أعني منزلة التثنية والجمع في ظاهر إطلاق اللفظ .
وليس الكلام في أن معنى الجمع هل يتحقق في الاثنتين أم لا ، فإن المعنى بذلك أن لفظ الجمع المركب من الجيم والميم والعين حقيقة في الاثنين فإنه مشتق من الاجتماع والضم ، ويتحقق ذلك في الاثنتين تحققه في الثلاثة ، وإنما الكلام في لفظ الأخوة هل يظهر إطلاقه على موضع الأخوان ؟
ويجوز أن تفترق منازل الجموع في إطلاق ألفاظ ، مثل قول القائل عشرة دراهم ومائة درهم ، وقد لا تفترق ، فيكون التعبير عن الاثنتين مثل التعبير عن الثلاثة ، من غير أن ترتيب المنازل من التثنية والواحد أن الجمع مثل قولك : قمنا لنفسه وأخرى معه ، ولنفسه وآخرين معه من غير فصل .
فإذا تقرر ذلك ، فليس في قول القائل إن لفظ الجمع حقيقة في الاثنين أخذاً من موضع الاشتقاق وهو الجمع ، جواب عن احتجاج ابن عباس بظاهر كتاب الله عز وجل في إطلاق الأخوة في موضع الأخوين ، وهذا بيّن{[739]} .
نعم ، قد يطلق لفظ الأخوة على الأخوين معدولاً به عن الأصل ، كما يطلق لفظ الجمع في موضع الواحد ، ويعبر عن الواحد بلفظ الاثنين مثل قوله : { نحْنُ قَسَمْنا{[740]} } ، والتعبير عن الواحد بلفظ الاثنين كقوله تعالى : { ألْقِيا في جَهَنّمَ كُلَّ }{[741]} وهو يريد الواحد ، إلا أن كل ذلك خلاف الأصل والوضع ، وليس الكلام فيه .
وليس يبقى بعد النزول عن الظاهر إلا أن يقال : النص وإن ورد في الثلاث ، فلا يمتنع الاثنتين به بطريق الاعتبار .
ووجه الاعتبار أن الله تعالى ألحق الاثنين بالثلاث فيما يتعلق بميراث الأخوة في استحقاق الثلثين ، وفيما يتعلق بميراث البنات ، وغاير بين الواحدة والثنتين ، فيدل ذلك على أن حكم الاثنتين أقرب إلى الثلاث منه إلى الواحد .
ولابن عباس أن يعترض على هذا الكلام من أوجه : أن الله تعالى شرط في حجب الأمهات عدداً فقال : { إنْ كَانَ لَهُ إخْوةٌ } ، وذلك يقتضي التقييد الذي لا يجوز تركه وإلغاؤه ، فإذا حصل بالاثنين بطل فحوى الكلام في التقييد .
ولو قال للواحد : فإن كان له أربعة إخوة فلأمه السدس ، كان الكلام ركيكاً ، وأن عدد الأربعة لا يتعلق به حكم ، فالتقييد بالثلاث مثل ذلك على رأي من لا يجعل لهذا القيد أثراً .
الوجه الثاني : أن الأصل في حق كل مستحق للميراث ، أن لا يسقط ولا ينتقض إلا بتوقيف قاطع ، والأم مستحقة بقرابتها ، فما لم يثبت قاطع في حجبها لا يسقط حقها ، فإذا شهد الظاهر للثلاثة وجب الرجوع إلى الأصل ، فكان الذي لا يحجب الأم بالاثنتين متعلق بالظاهر ، ومتعلق بالأصل في ميراث الأم .
الوجه الثالث : أن مساواة الأخوين للثلاث في حكم من أحكام الميراث ، لا يقتضي مساواتهما لهم في كل حكم ، فإن الزوجة الواحدة تساوي للعدد في الميراث ، والجدة الواحدة تساوي الجدات في نصيب الجدات ، وبنت الابن مع البنت الواحدة حكمها حكم الجماعة ، فإنه لا يفرق بين بنت الابن الواحدة وبين الجماعة من بنات الابن ، وكذلك في الأخوات من الأب مع الأخت من الأب والأم ، فليس لذلك قانون مطرد .
وغاية الأمر فيه أن يقال في حق الأخوة والأخوات وما في منزلتهم الأمر كذلك .
وإذا لم يختلف مقدار ميراثهم في الاثنتين والجماعة ، لم يختلف مقدار قولهم في الحجب في حق الاثنتين والعدد ، وفي حق الزوجان لا يختلف ميراثهن بالواحدة والعدد ، إلا أنه لا يظهر حكم ميراثهن في حجب حرمان أو إسقاط ، فكأن الشرع يقول لنا ، كمال قوة الأخوة في الميراث ، يقتضي حجب الأم ، الثلث إلى السدس ، وكمال قوتهم بكمال حقوقهم في الميراث ، وفي ذلك يستوي الاثنان والجماعة .
ولما كانت قوة قرابة أولاد الميت وأولاد أولاده ، أوفى من قوة قرابة أولاد أب الميت ، لا جرم أصل ميراث الأولاد دون كماله كان كافياً في حجب الأم ، مثل البنت الواحدة وبنت الابن الواحدة ، وإن كان ميراث الثنتين أوفى .
وإنما يظهر أثر ذلك في معنى آخر ، وهو أن قوة قرابتي الأولاد{[742]} إذا لم تكف في حرمان أولاد الابن ، فكمال قوة بنات الصلب في الميراث تكفي في إسقاط أولاد الابن .
وكذلك كمال ميراث الأخوات من الأب والأم كاف في إسقاط أولاد الأب فقط ، فإذا قلنا لا يقع حجب الأم بالأخت الواحدة ، وإنما يقع بكمال قوتهم من الميراث ، فذلك يقتضي التسوية بين الاثنين والثلاث ، وهذا بيّن ظاهر ، وهو نظر دقيق في نصرة قول جماهير العلماء{[743]} .
ويمكن أن يقال إن العدد الكثير من الصحابة لم يتفقوا على مخالفة الظاهر إلا بتوقيف . أما هذا المعنى الذي قلناه فدقيق ، لبعد اجتماع الجم الغفير على ذلك ، وترك الظاهر بسببه ، فيظهر تقدير توقيف ، وإن لم ينقل ، يعلم أنهم به تركوا الظاهر ، والعلم عند الله .
فهذا وجه منقول عن كافة الصحابة في مخالفة الظاهر ، الوجه الآخر : ما نقل عن قتادة أنه قال : إنما يحجب الأخوة الأم من غير أن يرثوا مع الأب ، لأنه يقوم بنكاحهم ، ويلزمه المؤن بسببهم لتحقيق إربهم ، فأما الأخوة من الأم ، فخارجون عن ذلك ولا يحجبون مع الأب ، فخالف به مطلق قوله تعالى : { فإنْ كَانَ لَهُ إخوةٌ فَلأمِهِ السُّدُسُ } .
وليس لقوله هذا وجه ، فإن الذي يلتزم من المؤن ليس يلتزمه عوضاً عن الميراث ، بل يلتزمه بحكم الأبوة ، ولا تعلق لذلك بالميراث ، فلو كان الابن كافراً ، فعلى الأب نفقته أيضاً ولا يحجب الأم{[744]} .
الوجه الثالث في مخالفة الظاهر : ما نقل عن ابن عباس ، أن الأخوة مع الأب لا يحجبون الأم ، إلا عن قدر يأخذونه هم ، فإذا فرضنا أخوين وأبوين ، فللأم السدس ، وللأخوين السدس الذي حجبت عنه الأم ، والباقي للأب ، وذلك خلاف الظاهر ، فإنه تعالى قال : { وَوَرَثَهُ أَبَواهُ فَلأمِّهِ الثُلُثُ فإن كانَ لهُ إخْوةٌ فَلأمِّه السُّدُسُ } ، وتقديره : فإن كان له إخوة مع الأب ، ويبعد أن يكون للأخوين مع الأب ميراث ، وهو يقول : ليس ذلك ميراثاً من الأخ ، وإنما الأم قد حجبت بالأخوة ، فيرجع إليهم لا إلى الأب ، فيقال : فإذا حجبوا بالأب ، فليس لهم من الميراث شيء ، ولا لها الثلث ، فيقول الأب : أنا أسقطهم من الميراث ، وهم أسقطوا ، فيجعل كأن السدس لم يكن لك ، فأنا المستحق لذلك بحكم العصوبة ، وهذا في غاية الوضوح ، فهذه هي المذاهب المنتزعة من الظاهر .
وصار بعض الناس إلى أن الأخوات لا يحجبن الأم من الثلث إلى السدس ، لأن كتاب الله في الأخوة ، وليست قوة ميراث الإناث مثل قوة ميراث الذكور حتى تقتضي العبرة الإلحاق .
ومقتضى أقوالهم أن لا يدخلن مع الأخوة في لفظ الأخوة ، فإن لفظ الأخوة بمطلقة لا يتناول الأخوات ( مع البنات{[745]} ) كما أن لفظ البنين لا يتناول البنات ، وذلك يقتضي أن لا تحجب الأم بالأخ{[746]} والأخت من الثلث إلى السدس ، وهو خلاف إجماع المسلمين ، وإذا كن مرادات بالآية مع الأخوة ، كن مرادات على الإنفراد . ولو كان ذلك لقوة الذكورة ، لاستوى الأخ الواحد والعدد ، لأن ميراث الأخوة يستوي فيه الواحد والعدد ، فهذا تمام المذاهب في الأوجه المنتزعة من الآية .
بقيت هاهنا مسألة واحدة دقيقة ، وهي أنه إذا كان في الفريضة زوج وأم ، وأخ وأخت لأم ، فلا خلاف بين الصحابة أن للزوج النصف ، وللأم السدس ، وللأخ وللأخت من الأم الثلث ، وقد تمت الفريضة .
أما عامة الصحابة ، فلأنهم حجبوا الأم بالأخ والأخت من الثلث إلى السدس ، فاستقام لهم ذلك هاهنا . وأما ابن عباس ، فلأنه لا يرى العول ، ولو جعل للأم الثلث لعالت المسألة ، وهو لا يرى ذلك ، وإذا قيل له : فلم كانت الأم بالنقصان أولى من الأخوين ؟ لم يجد كلاماً ظاهراً عليه .
وفيه دليل ظاهر على ما قاله أهل الإجماع من العلماء ، وتخطئة ابن عباس في قوله .
ثم أبان الله تعالى ميراث الزوج والزوجة وحجبها بالولد من الربع إلى الثمن ، ومن النصف إلى الربع ، وميراثهما على نسبة ميراث العصبات : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } ، إلا أن ميراث العصبات لا يتعذر ، وهذا مقدر ، وميراث العصبات يشترك فيه الذكور والإناث ، وهاهنا لا يتصور الشركة .
إذا عرفنا ذلك ، فأعلم أن كل من يحجبه الابن يحجبه ابن الابن بالإجماع من الزوج والزوجة والإخوة ، وذلك إما أن يدل على أن اسم الولد يتناول ابن الابن ، أو يتلقى من الإجماع .
وإذا تبين ذلك ، فقول الله عز وجل في ميراث الأزواج والأمهات { إنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ }{[747]} مطلق ، ولكن جمهور العلماء خصوا الحجب بمن يرث ، فأما من لا يرث كالكافر والمملوك ، فلا يحجب ولا يرث .
وصار ابن مسعود أن من لا يرث من هؤلاء يحجب حجب النقصان ، ولا يحجب حجب الحرمان ، وذكرنا فرقة بين الحجبين في مسائل الروايا{[748]} ، وهو فرق حسن ، وصورته أن الأب الكافر لا يحجب عنده ابن نفسه عن ميراث جده ، وأنه بمنزلة المعدوم في ذلك ، فأعتبر أصحابنا حجب النقصان به ، وذكرنا فرقة بينهما .
وكافة العلماء يقولون إن الله تعالى إنما شرع الحجب لأن الذي ينقص من نصيبه يرجع إلى الحاجب في الأغلب ، فقوة ميراثه تقتضي ذلك وأما الكافر فلا يتصور هذا في حقه ، فكان كالمعدوم ، وسره يرجع إلى أن الوراثة خلافة ، إلا أن بعض الخلفاء أولى ببعض ، فمن حجب حجب الحرمان أخذ نصيب المحروم ، ومن حجب حجب النقصان أخذ نصيبه غالبا ، وهذا بيّن .
لما ذكر الله الولد ، وأجمع العلماء على أن ابن الابن مثل الابن ، فعرفنا به أن المعتبر الميراث لا اسم الولد ، وإذا تبين ذلك ، فلا خلاف في الابن والبنت وابن الابن وبنت الابن ، أن الميراث بينهم { للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } لا بحكم الظاهر ، فإن مطلق لفظ أولاده لا يتناول أولاد أولاده ، وولد ولده ليس ولده تحقيقاً ، فإنه لو كان اسم الولد حقيقة فيه بالإضافة إلى الجد ، ما كان حقيقة الأب بالإضافة إلى الأب ، فإن الجهة الواحدة إذا كان الاسم حقيقة فيها ، لم يكن حقيقة في جهة أخرى تغايرها من طريق العموم ، وإنما يكون على وجه الاستقراء بذلك الاشتراك ، وذلك يقتضي الإجمال عند الإطلاق ، وإذ تبين ذلك وعرف ، لم يدخل ولد الابن إلا بطريق الإجماع ، فإذا ثبت ذلك ، فإذا ترك بنتاً وابنة ابن ، فللبنت النصف بالتسمية ، ولابنة الابن السدس ، وما بقي للعصبة ، فاستحقاق ابنة الابن للسدس ليس مأخوذاً من التسمية وإنما أخذ من الإجماع ، فإذا ترك اثنتين وابنة ابن وابن ابن ابن فكمثل . وقال ابن مسعود : إذا أخذ البنات الثلثين ، فليس لبنات الابن شيء ، وإن كان معهن ذكر ، وكذلك في الأخوات من الأب ذكر ، درجتهن بعد فرض الأخوات من الأب والأم الثلثين ، وأنه لو كان بدلهن عم وابن عم ، كان لا تأخذ ابنة الابن شيئاً ، فكذلك مع الولد الذكر . وأما جماهير العلماء فإنهم يقولون إن بنات الابن لا يأخذن فرض البنات ، وإنما يأخذن بجهة أخرى وهي جهة العصب ، وإنما كان يمتنع ذلك لو أخذن في هذا الوقت بذلك الفرض الذي أخذ به غيرهن من البنات ، فأما إذا أخذن بوجه غير ذلك فليس هو من أولئك في شيء ، فيجعل ما بقي من المال بعد الثلثين كأنه جملة مال لا فريضة فيه مسماة لأحد ، فيكون للذكر مثل حظ الانثيين .
ونشأ منه أنا إذا جعلنا هذا المال كأنه لا فريضة فيه لأحد أصلاً ، فإذا كان في الفريضة بنات ابن وذكر أسفل منهن ، فلا بد وأن يعصبهن ، فإنه لو لم يعصبهن أخذن بالفرض ، ونحن قدرنا المال كأن لا فرض فيه أصلاً بحال ، فإذا قدرنا ذلك ، فلو فضلت العليا من بنات البنين على من هو أسفل منها من بني البنين في الثلث الذي يبقى ، لم تكن الفريضة قد مضت .
فإن قيل : كيف جاز أن ترث بنت الابن بسبب ابن الابن ، ولولا مكانه لم يرث شيئاً ؟ قيل : كما أنا إذا فرضنا ابنا وعشر بنات أخذن أكثر من الثلثين ، ولو كن منفردات لم يأخذن ، فصار لهن بسبب التعصيب أكثر مما لهن عند الإنفراد ، وربما كان التعصيب سبباً للسقوط في بعض المواضع .
فإن قيل : فإذا فرض اثنتين وبنت ابن وأخت فلم لا يجعل الثلث الباقي بعد فرض البنتين لبنت الابن ، وتجعل عصبة كما جعلتم الأخت عصبة ، فإن بنوة الميت أولى بالميراث من بني أبي الميت ، وعندكم أن الباقي بعد فرض البنتين للأخت ، ولم لا يجعل لها العصوبة هاهنا على قياس حالها عند الإنفراد كما جعل للأخت المعصوبة ؟
ووجه الجواب عنه أنا بإعطائنا بنات الصلب الثلثين ، قضينا حق الإناث من أولاد الصلب من الميراث ، فلو أخذت بنت الابن لأخذت ببنوة الميت .
فإن قلتم : الذي أخذ به البنات بالفرض ، فهلا أثبتم العصوبة هاهنا وهي جهة أخرى ؟ فالجواب عنه أن العصوبة إنما تثبت إذا كانت الجهة في الأصل مخالفة لجهة ميراث البنت ، فيعدل من الفرض إلى العصوبة لغرض حفظ الجهة ، أما إذا كانت الجهة واحدة وقد قضى من الميراث حقها ، فلا وجه لإثبات الميراث لها ثابتاً بجهة العصوبة .
نعم إذا كان هناك ابن ابن فليس ميراث الذكر من جنس ميراث الإناث ، وكذلك لو كانت ابنة وابن ابن ، فالباقي لابن الابن ، لا بطريق أنه تكملة الثلثين ، ولو كان يدل ذلك ابنة ابن ، فلها تكملة الثلثين ، فيدل ذلك على اختلاف الجهة .
ويدل على ذلك أنا إذا فرضنا أختاً لأب وأم وأختاً لأب ، فلولد الأب السدس تكملة الثلثين ، ولو كان أولاد الأب والأم اثنتين ، فلا شيء لأولاد الأب إلا أن يكون معهن ذكر يعصب ، وهو نظير مسألتنا ، سوى أن الأسفل في الدرجة لا يعصب الأخوات للأم لوجه آخر ، فهذا تمام البيان في ذلك .
وقال ابن مسعود : في البنت وبنت الابن وابن الابن ، أن للبنت النصف ، والباقي بين الذكر والأنثى على التفاوت ، كفرائض أولاد الصلب ، إلا أنه قال : ما لم يزد نصيب بنات الابن على السدس ، فلا نُعطيهن أكثر من السدس ، وجعل لهن الأضر من المقاسمة ، أو سدس جميع المال ، فلم يعتبر الفرض على حدة هذه الحالة ، ولا التعصيب على حدة ، لكنه اعتبر القسمة في منع الزيادة على القسمة ، فاعتبر المقاسمة في النقصان وهو بعيد لا وجه له .
وإذا نحن بينا ميراث الأمهات والزوجات والأزواج ومن يحجبهن فيتعلق بما إليه ، انتهى الكلام أن الله تعالى قال : { وَوَرِثَةُ أَبَواهُ فَلأمِّهِ الثُلُثُ } ، فاقتضى ذلك أن للأم الثلث والباقي للأب ، إذا لم يكن ثم إخوة ولا أولاد ميت ، فعلى هذا قال ابن عباس في زوج وأبوين : إن للأم الثلث الكامل ، فيكون ميراثها ، زائداً على ميراث الأب ، وكذلك قال في زوجة وأبوين ،
وتابعه ابن سيرين في المرأة والأبوين وخالفه في الزوج والأبوين ، لئلا يكون تفضيلاً للأم على الأب .
واعلم أن الاستدلال بالقرآن في مخالفة ابن عباس ممكن هين ، وذلك أن الله تعالى جعل الميراث بين الأبوين أثلاثاً ، مثل ما بين الابن والبنت في قوله : { لِلذّكرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } ، وجعل بين الأخ والأخت أثلاثاً ، فإذا سمى للزوج والزوجة ما سمى لهما ، وأخذا نصيبهما ، كان الباقي بين الابن والبنتين على ما كان قبل دخولهما ، وكذلك بين الأخ والأخت ، يجب أن يكون على هذه النسبة ، فاعلم أن ذلك إنما يكون إذا كان الابن يأخذ بالعصوبة ، فأما إذا كان يأخذ بالفرض فهو والأم سواء ، فإنه إذا كان في الفرض أبوان وابن ، فللأبوين السدسان والباقي للابن ، لأنه لا عصوبة للأب أصلاً مع الابن ، وإنما يأخذ بالفرض ، فكان الذكر والأنثى في هذا المعنى سواء كأولاد الأم .
وهذا يرد عليه الزوج والزوجة ، لأنه جعل بينهما على نسبة التفاوت ، مع أنهما يأخذان بالفرض المحض ، وعلى أن الأب إذا كان يأخذ بالتعصيب في زوج وأبوين ، فالعصب مانع ، فلا نظر إلى التفصيل ، وغاية ما يقال فيه أن عصوبة الأب غير متمحضة ، بل هي عصوبة مشوبة بجهة الولادة ، ولذلك يجمع له بين الفرض والتعصيب ، فيجوز أن يكون جهة العصوبة بالابن الذي هو أولى العصبات ، وأما تعطيل جهة الولادة فلا ، وإذا لم يعطل جهة الولادة حال كونه عصبة ، ولم تتمحض عصوبته ، تعلق به على كل حال أن لا تفضل الأم على الأب مع تساويهما في الولاية ، بل يراعي في حق الأب جهة الولادة وجهة العصوبة جميعا ، وذلك يقتضي تفضيله عليها ، فهذا منتهى الممكن في نصرة مذهب جماهير العلماء .
ونظر ابن عباس جلي جداً ، وينشأ منه أن الجم الغفير إذا خالفوا النظر الجلي فلا يخالفون إلا بالتوقيف . ويمكن أن يقال في مقابلته : وابن عباس إذ أظهر الخلاف ، كان من الواجب أن يحتج عليه بذلك التوقيف ، ولم يثبت ذلك فهو مشكل والعلم عند الله تعالى .
وحاصل نظر الجمهور يرجع إلى أنه إذا وجب أن يبدأ بالزوجة أو الزوج ، ويعطي كل واحد منهما نصيبه ، فزال الفرض المنصوص لهما بالزوج والزوجة ، لأن المنصوص لهما إذا لم يكن زوج ولا زوجة ، فإذا أعطيناهما حقهما نظرنا إلى ما يبقى بعد ذلك ، فيجعل بمنزلة جملة المال الذي لا فرض فيه لأحد الأبوين ، فيقسم بينهما ، فيعطي الأم ثلثه ، ويعطي الأب ما بقي ، لأن النقيصة لما دخلت عليهما من قبل الزوج أو الزوجة ، وجب أن تكون داخلة عليهما على قدر حصصهما إذا لم يكن الأب في هذا الموضع بمنزلة العصبة الذين تبدأ بأهل الفرض ، ثم يعطون ما بقي لأن أولئك غير مسمين ، والأبوان إذا كانا هما الوارثان ففرض كل واحد منهما معلوم ، فلما دخل عليهما فرض الزوج والزوجة دخل على كل واحد منهما بقدر حصته .