قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُم أمّهاتِكُم } الآية [ 23 ] : حرم الله تعالى من النسب سبعاً ومن الصهر سبعاً ثم قال : { كِتابَ اللهِ عليْكُم وأحِلَّ لكُم ما وراء ذلِكُم{[804]} } . واللفظ ليس حقيقة في أمهات الأمهات ، وأمهات الآباء ، والأجداد ، والتحريم شامل{[805]} ، نعم اسم الأمهات ينطلق عليهن عرفاً ، فلا جرم اكتفى بإطلاق العرف عن ذكرهن . والدليل على أن اسم الأمهات ليس حقيقة في الجدات والأجداد ، أن الصحابة لم يفهموا من ميراث الأبوين ميراث الجدات والأجداد ، حتى بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستنبطه أهل الإجماع بدقيق النظر ، وروى لهم الراوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم الجدة بالسدس ، واختلفوا في الجد مع الأخ ، ولم يجهلوا معنى الاسم ، وكان الإجماع انعقد على تحريم الجدات وهو الأصل .
فإن ثبت ذلك ، فقد حرم الله تعالى بعد الأمهات الأخوات ، وذكر بنات الأخوات ، وبنات الأخ ، لأن اسم الأخ لا يتناول ابن الأخ مجازاً ولا حقيقة .
واعلم أن الله تعالى وضع هذا التحريم على ترتيب عجيب ، فحرم أولاً أصول الإنسان عليه وفصوله ، وفصول أصوله الأولى بلا نهاية ، وحرم فصول فصوله بلا نهاية ، وحرم أول فصول كل أصل ليس قبله أصل إلى غير نهاية ، وهو أولاد الإخوة والأخوات ، وحرم أول فصل من كل أصل قبله أصل آخر بينه وبين الناكح ، وهو أولاد الجد وأبو الجد ، فإن التحريم مقصور ، وابنة الخال ، على أول فصل ، فابنة العم ، وابنة العمة ، وابنة الخالة حلال . ثم قال : و{ أمّهاتِكُم اللاّتي أرْضَعْنَكُم } ، فحرم من الرضاع ما حرم من النسب ، غير أن في الرضاع لم يذكر بنات الأخ والعمات والخالات من الرضاعة ، ودل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب{[806]} " . وقال تعالى : { وأمّهاتُ نِسائِكُم } ، وقد حرم الله تعالى الأم من الرضاعة ، من غير تعرض لما به يحصل الرضاع{[807]} من مقدار الرضاع{[808]} ومدته ، فالتعلق بهذه الآية في إثبات التحريم بالرضعة الواحدة تعلق بالعموم ، الذي سيق لغرض آخر غير غرض التعميم ، إلا أن صيغة العموم وقعت صلة في الكلام زائدة ، ليتوصل بها إلى غرض آخر يستنكره في سياقته ، للتعريج على ذكر تفصيل ما يتعلق به حرمة الرضاع ، وفي مثله يقول الشافعي رضي الله عنه : الكلام يجمل في غير مقصودة ويفصل في مقصوده ، وفي الأصوليين من يخالف ذلك .
وقد شرحنا ذلك في تصانيفنا في الأصول ، واليد العليا لمن يذب عن مذهب الشافعي رضي الله عنه ذلك ، وهو منع الاستدلال بهذا الجنس من العموم .
وذكر الرازي في هذا المقام ، أن أخبار آحاد النصوص لا يجوز أن يخصص بها هذا العموم ، فضلاً عن منع التعلق به ، وفيما قدمناه ما يبين فساد قوله .
واختلف الناس في لبن الفحل ، وهو أن يتزوج المرأة فتلد منه ولداً ويدر لها لبناً بعد ولادتها منه ، فترضع منه صبياً : فأكثر العلماء على أن لبن هذا الفحل ، يحرم هذا الصبي على أولاد الرجل ، وإن كانوا من غيرها ، ومن لا يعتبر لا يوجب تحريماً بينه وبين أولاده من غيرها .
فمن قال بلبن الفحل ابن عباس ، وقال ابن سيرين : كرهه قوم ، ولم ير به قوم بأساً ، ومن كرهه كان أفقه ، وهو قول القاسم بن محمد ، وعليه الفقهاء المعتبرون مثل الشافعي ، ومالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث ، وأبي حنيفة وأصحابه جميعاً . وخالف سعيد بن المسيب ، وإبراهيم النخعي ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقالوا : لبن الفحل لا يحرم شيئاً من قبل الرجل .
وقوله تعالى : { وأمّهاتِكُم{[809]} اللاَّتي أرْضَعْنَكُم } ، يدل على أن الفحل أب ، لأن اللبن منسوب إليه ، فإنه در بسبب ولده وهذا ضعيف فإن الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعاً ، واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل ، وما كان من الرجل إلا وطء هو سبب لنزول الماء منه ، وإذا حصل الولد ، خلق الله للبن ، من غير أن يكون اللبن مضافاً إلى الرجل بوجه ما ، ولذلك لم يكن للرجل حق في اللبن ، وإنما اللبن لها فلا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء .
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " ، يقتضي التحريم من الرضاع ، ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل ، مثل ظهور نسبة الماء إليه ، والرضاع منها ، لا جرم الأصل فيه حديث الزهري وهشام ابن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها ، أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة ، بعد أن نزل الحجاب ، قالت : فأبيت أن آذن له ، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته ، فقال : ليلج عليك ، فإنه عمك تربت يمينك ، وقال : أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها . . وهذا أيضاً خبر واحد{[810]} . ويحتمل أن يكون أفلح مع أبي بكر رضيعي لبان ، فلذلك قال : " ليلج عليك فإنه عمك " ، وإلا فلم يثبت أنه كان الرضاع قبل التزويج أو بعده ، أو كانت امرأة أبي قعيس ولدت منه ، فإن قدرت هذه الأمور ، فيجوز أن يقدر به ما قال المخالف .
وبالجملة ، القول فيه مشكل والعلم عند الله تعالى ، ولكن العمل عليه والاحتياط في التحريم أولى ، مع أن قوله : { وأحِلَّ لَكُم ما وراءَ ذَلِكُم{[811]} } ، يقوي قول المخالف فاعلمه .
قول تعالى : { وأمّهات نِسائِكُم{[812]} وربائِبُكُم اللاَّتي{[813]} في حُجورِكُم مِن نِسائِكُم اللاَّتي دَخَلْتم بِهنَّ } الآية [ 23 ] : اعلم أن السلف اختلفوا في اشتراط الدخول في أمهات النساء ، فروي عن عليّ اشتراط ذلك ، مثل ما في الربائب ، وروي عن جابر مثل ذلك ، وهو قول مجاهد وابن الزبير ،
وأكثر العلماء على خلاف ذلك في الفرق بين الربائب وأمهات النساء .
فأما من جمع بينهما يقول : الشرط إذا تعقب جملاً رجع على الجميع ، كالشرط والاستثناء بالمشيئة ، وذلك ما قررناه في الأصول ، وأصحاب الشافعي وأبي حنيفة يسلمون الشرط والاستثناء بالمشيئة ، ورجوعهما إلى الجميع ، فوجب عليهما أن يفرقوا على كل حال .
فكان الفرق أن قوله تعالى : { وربائِبُكُم اللاَّتي في حُجورِكُم } ، ثم قال : { مِن نِسائِكُم اللاَّتي دَخَلْتم بهِنَّ } ، فنعت الربائب بنعت لا يتقرر ذلك النعت في أمهات النساء ، ثم ذكر إضافة ، فالظاهر أن الإضافة وهي قوله : { مِن نِسائِكُم } لصاحبة الصفة ، وكانت كالصفة الثانية ، فلم يظهر رد النعت الثاني إلى أمهات الثاني ، وقبله وصف لا يتصور فيهن ، بل الثاني يتبع الأول .
ولو قال ظاهراً : " وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن " ، أو هم أن أمهات النساء من النساء ، وذلك وصف للربائب ، لا وصف أمهات النساء فتقرير اللفظ بنات نسائكم اللاتي دخلتم بهن .
والمخالف يقول : بل تقديره من حيث العطف : " وأمهات نسائكم وبنات نسائكم " وذلك يقتضي الجمع ، فكأنه قال : " وأمهاتهن وبناتهن " ، فانصرف الثاني إلى ما انصرف الأول إليه ، فتقديره : وأمهات نسائكم ، وبنات نسائكم اللاتي في حجوركم ، ونساؤكم ممن قد دخلتم بهن .
ويجاب عنه بأن الأسماء المتحدث عنها المذكورة ، هي التي يصرف النعت إليها دون الأسماء المضاف إليها ، إلا أن يتبين أن النعوت للأسماء المضاف إليها بنص ، أو بضرب من الدليل يقوم مقامه ، فإنك إذا قلت : لعلي بن محمد بن أبي الحسن عليّ ألف درهم ، تكون الكنية لعلي دون محمد ، وتقول زيد بن عبد الله الفقيه قال : ظاهر أن الفقيه هو الاسم المتحدث عنه .
فحاصل القول ، أن الحكم إنما ورد في أمهات النساء وفي الربائب ، وكانت الإضافة من النساء اللاتي دخلتم بهن لا تليق بأمهات النساء ، وهي تليق بالربائب ، جعل الشرط فيه فيهن ، وقام مقام النعت ، وكان جعل ذلك للنساء اللاتي أضيف الأمهات إليهن ، إذ الأمهات والربائب جميعاً دون الربائب ليس بمنصوص ، ولم يجر فيه ما وصفتم من قولكم : وبنات نسائكم ونسائكم ممن قد دخلتم بهن ، فإن ذلك بإضمار أمور يخرج بها اللفظ عن ظاهره .
وبالجملة لو جعل قوله : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتي في حُجُورِكُم } تمام الكلام ، ويجعل { مِنْ نِسَائِكُمُ اللاّتي دَخَلْتُم بِهِنَّ{[814]} } ، فيخرج الربائب اللاتي قد أجمعوا عليها من اللبن{[815]} ، فيكون تقديره : " وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن " .
ولا شك أن كلام المخالف ليس ينقطع بذلك ، إلا أنه يقال : ساق الله تعالى محرمات عدة مبهمة ، وليس فيها تقييد ، وجعل في آخرها تقييداً ، فالأصل اتباع العموم وترك المشكوك فيه ، والاحتياط للتحريم يقتضي ذلك فاعلمه .
وفي الناس من خص التحريم بالتي توصف بكونها ربيبة ، وقال : إذ لم تكن في حجر الزوج ، وكانت في بلد آخر ، وفارق الأم بعد الدخول ، فله أن يتزوج بها ، وهذا قول علي{[816]} رضي الله عنه ، على ما يرويه عنه مالك بن أوس ، فإن صح هذا عنه{[817]} فيقال : يجوز أن يكون الله تعالى قد أجرى ذلك على الغالب ، من غير أن تكون هذه الصفة شرطاً في التحريم ، إلا أن علياً يقول : فإن كان كذلك وثبت ، فلم اعتبرتم هذا الوصف في قطع الشرط المذكور بعده عن الأول ، وإنما قطعتموه بتخلل هذا الوصف في قطع الربائب ، وفيه إبانة اتصال الوصف الثاني بالأول .
واعلم أن قول الله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُم أَمّهَاتُكُم } لم يستوعب المحرمات بالنسب والرضاع جميعاً ، فإنا بينا أن الآية ما تناولت الجدات من قبل الأم والأب حقيقة ، ولا خالات الأب والجد وعماتهم ، ولا خالات الأم وعماتهن{[818]} .
وفي الرضاع لم يذكر بنات الأخ ، وبنات الأخت ، والخالات والعمات من الرضاعة ، وكل ذلك مفوض إلى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولا يقال ذكر من ذكر ، والسكوت عما سكت عنه لوجه صحيح ، بل هو على ما شاء الله وأراده ، لمصلحة خفية لم يطلع عليها ، تولى بيان البعض وسكت عن البعض : وإذا ثبت ذلك فقوله : { حُرِّمَتَ عَلَيْكُم أُمّهَاتكُم وَبَنَاتُكُم وَأخَوّاتُكُم } الآية يقتضي تحريمهن مطلقاً بملك اليمين وذلك النكاح ، فإن الله تعالى أبان تحريم الاستمتاع ، وحرم النكاح ، لأنه طريق إلى الاستمتاع ، وإذا ثبت ذلك وتقرر فقوله : { حُرِّمَتَ عَلَيْكُم أُمّهَاتكُم } إلى قوله : { وأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ } ، يقتضي تحريم الاستمتاع ، إلا أن تحريم الاستمتاع بمنع النكاح ولا يمنع ملك اليمين ، فنتيجته تحريم وطء المذكورين بملك اليمين ، الذين لا يعتقون بالشراء .
واعلم أنه لا خلاف في تحريم وطء الأمهات ، والأخوات من النسب ، والرضاع بملك اليمين ، وأن السبع اللواتي حرمن بالنسب ، واللواتي حرمن بالنسب والصهر ، حرم وطؤهن في ملك اليمين ، ولا خلاف في تحريم الجمع بين وطء الأم والبنت بملك اليمين ، وإذا دخل بالأم ، حرمت البنت أبداً بملك اليمين ، وحليلة الأب والابن محرمتان بِملك اليمين .
وإذا ثبت ذلك وتقرر فالله تعالى يقول : { وَحَلاَئَلُ أَبْنَائِكُم الّذيِنَ مِنْ{[819]} أَصْلاَبِكُم } .
وإنما أنزلت الآية على ما قاله عطاء بن أبي رباح في النبي صلى الله عيه وسلم تزوج امرأة زيد فنزلت : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُم أبناؤكُم{[820]} } . و { ومَا كَانَّ مُحَمدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم }{[821]} وكان يقال له : زيد بن محمد ،
وسميت زوجة الإنسان حليلته ، لأنها تحل معه في فراش واحد . وقيل : لأنه يحل منها الجماع بعقد النكاح .
والأمة وإن استباح فرجها بالملك ، لا تسمى حليلة ، ولا تحرم على الأب ما لم يطأها ، وعقد نكاح الابن عليها يحرمها على أبيه تحريماً مؤبداً .
وإذا تعلق التحريم باسم الحليلة ، اقتضى ذلك تحريمهن بالعقد دون شرط الوطء ، فشرط الوطء زيادة ، لا يقتضيها اللفظ ، وإذا ثبت ذلك فموطوءة الأب بملك اليمين أو بالشبهة ، لا تسمى حليلة من حيث الإطلاق ، ولكن اقتضى الإجماع إلحاقها بها .
وقوله تعالى : { الّذيِنَ مِنْ أَصْلاَبِكُم } . نفي للأدعياء ، ولكنه لا ينفي الرضاع ، والتحريم به ثابت ، وليس الاسم بحقيقته متناولاً للوطء بملك اليمين ، وهو بحقيقته متناول لنفس النكاح ، فإن اسم الحليلة حقيقة في نفس ملك النكاح .
وقوله : { وأن تَجْمَعوا بينَ الأخْتَينِ } : معناه تحريم الجمع على الوجه الذي حرم الأفراد من المحرمات ، وفي الذي تقدم حرم الاستمتاع ، فتقدير الكلام : ولا تجمعوا بين الأختين في الوطء ، وذلك يعم الوطء في النكاح وملك اليمين ، إلا أن ذلك في النكاح يمنع أصل النكاح ، ولا يمنع ملك اليمين ، فإذا ثبت ذلك وتقرر ، نشأ منه أن الجمع بين الأختين في النكاح لا يجوز ، ونشأ منه تحريم وطء الأختين بملك اليمين . وفي هذا على الخصوص نقل خلاف عن السلف ، ثم زال الاختلاف .
وإذا تبين أن المنصوص على تحريمه جمع مضاف إليه ، حتى يقال هو الذي يمسكهما ويطؤهما ، فإذا زال النكاح ، زال هذا المعنى من كل وجه ، ولم يكن إمساك المعتدة مضافاً إليه ، فيقتضي هذا أن لا يكون النهي عن الجمع متناً ، ولا من نكح الأخت في عدة الأخت ، وإذا تبين ذلك ، بقيت على مقتضى قوله تعالى : { وأحِلَّ لَكُم ما وراء ذَلِكُم } وهذا بين حسن ، فكان الأصل الإباحة ، ثم طرأ مانع ، زال المانع فرجع إلى الأصل .
قوله تعالى : { إلاَّ ما قّد سَلَف{[822]} } : يحتمل أن يكون معناه معنى قوله : { إلاَّ ما قّد سَلَف } في قوله : { وَلا تَنْكِحوا ما نَكَحَ آباؤكُم مِنَ النِّساءِ إلاَّ ما قد سَلَفَ } ، ويحتمل معنى زائداً ، وهو جواز ما سلف ، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية ، كان النكاح صحيحاً ، وإذا جرى في الإسلام ، خير بين الأختين ، على ما قاله الشافعي رضي الله عنه ، من غير إجراء عقود الكفار ، على موجب الإسلام ومقتضى الشرع ، فهذا تحقيق القول في محتملات هذا للفظ ، فلا جرم ، قال الشافعي رضي الله عنه : إذا أسلم الكافر عن أختين ، خير بينهما ، سواء جمعهما في عقد واحد أو في عقدين .
وأبو حنيفة يبطل نكاحهما إن جمع في عقد واحد ، وتعين الأولى إن فرق ،
والشافعي لما رأى قوله تعالى : { إلاَّ ما قّد سَلَفَ } غير نص في مقصوده ، أراد أن يستدل بالنص ، فاستدل بحديث فيروز الديلمي والحارث ابن قيس{[823]} .
والعجب أن الرازي{[824]} قال في أحكام القرآن : لما لم يجز أن يبتدئ المسلم عقداً على أختين ، لم يجز أن يبقى له عقد على الأختين ، وإن لم يكونا أختين في حال العقد ، كما إذا تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة واحدة ، واستوى حكم الابتداء والانتهاء .
ونقلنا هذا الكلام بلفظه ، وذكر بعده كلمات يسيرة ، ثم نقل احتجاج الشافعي رضي الله عنه ، بحديث فيروز الديلمي ، والحارث بن قيس وقال : يحتمل أن يكون العقد قد كان قبل نزول التحريم ، فكان صحيحاً إلى أن طرأ التحريم ، فلزمه اختيار أربع منهن ومفارقة سائرهن ، كرجل له امرأتان ، فطلق إحداهما ثلاثاً ، فيقال له : اختر أيتهما شئت ، لأن العقد كان صحيحاً إلى أن طرأ التحريم . ووجه على نفسه سؤالاً فقال : إن قال قائل : لو كان ذلك يختلف ، لسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأجاب بأن قال : قيل له : يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك ، فاكتفى بعلمه عن مسألته .
نقلنا هذا الفصل بلفظه ، متعجبين من جهله بسياق كلامه{[825]} ، وأنه كيف تناقض أول كلامه وآخره مع تفاوت ما بين الأول والآخر ، وفي النوع الواحد من الكلام ، كيف لم يتصور عين التناقض ، وذكر في التأويل أنه يحتمل أن يكون العقد كان قبل نزول التحريم ، فكان صحيحاً إلى أن طرأ عليه التحريم ؟ فلم يجعل طريان التحريم مانعاً اختيار الأربع ، لأن العقد في الأول كان صحيحاً على الجميع ، ثم قال قبله كلمات : لما لم يجز أن يبتدىء المسلم عقداً على أختين ، لم يجز أن يبقى له عقد على أختين ، وإن لم يكونا أختين في حالة العقد ، كرحل تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة واحدة .
فليت شعري ، نكاح الرضيعتين في الأول كان صحيحاً حتى بطل الجميع بطريان الرضاع ، أم نكاح فيروز الديلمي لما كان صحيحاً في الأول ، لم يبطل بما طرأ من الإسلام ، وكيف يتصور الجمع بينهما ؟ وكيف يتم له هذا القياس ، وقد جعل الطارئ من التحريم كالمقارن بدليل الرضاع . . ؟
وتأويل خبر الديلمي ينقض هذا القياس ، فإن النكاح لما كان صحيحاً عنده لم ينقض ، وفي الرضاع كان صحيحاً ونقض .
وكيف يتصدى للتصنيف في الدين من هذا مبلغ علمه ومقدار فهمه ، فيرسل الكلام إرسالاً من غير أن يتحقق ما يقول ، ويحصل على نفسه ما يورده ، ثم يتعرض للطعن فيمن لو عمر عمر نوح ، ما اهتدى إلى مبادئ نظره في الحقائق ؟ فنسأل الله تعالى التوفيق ، ونسأله النجاة من عمى البصيرة واتباع الهوى .
واعلم أن المنصوص على تحريمه في كتاب الله تعالى ، هو الجمع بين الأختين ، وقد وردت آثار متواترة في النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، رواه علي وابن عباس وابن عمر وأبو موسى وجابر وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة{[826]} وعائشة ، وعليه الإجماع ، إلا ما نقل عن طائفة من الخوارج ، فإنهم زعموا أن قوله : { وأحِلَّ لَكُم ما وراء ذَلِكُم } لا يدفع بأخبار الآحاد ، وذلك متهم بناء على أن أخبار الآحاد لا يخص بها عموم الكتاب .
والأخبار في تحريم الجمع بين العمتين والخالتين ، إن كانت مقرونة في بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان الآية ، فتخصيص ، وإن تقدم الخبر فقوله : { وأحِلَّ لَكُم ما وراء ذَلِكُم } ، منزل على موجب الخصوص ، وإن تراخى فنسخ ، وللناس في نسخ الكتاب بأخبار الآحاد كلام ، والصحيح جوازه .
ومع أن قوله : { وأحِلَّ لَكُم ما وراء ذَلِكُم } ، ليس نصاً أصلاً ، وإذا لم يثبت التاريخ ، فالمطلق منهم محمول على المقيد ، على قول الشافعي رضي الله عنه ، وهو قول أكثر الأصوليين .
وعند قوم منهم يتعارضان ، وهو قول كثير من المحققين ، والتعارض هاهنا سبب التحريم ، فإن تعارض المبيح والمحرم يقتضي التحريم لا محالة .