قوله تعالى : { والمُحْصَناتُ{[827]} مِنَ النِّساءِ } [ 24 ] : الآية عطف على المحرمات . ثم قال : { إلاّ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم } . والمراد به أن ذوات الأزواج محرمات على غير الأزواج .
قوله : { إلاّ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم } : في تأويل علي وابن عباس ، في رواية وابن عمر ، والآية في ذوات الأزواج من النساء ، أبيح وطؤهن بملك اليمين ، وحصلت الفرقة بالسبي ، وورد ذلك في سبايا أوطاس ، وكان لهن أزواج في المشركين ، فتحرج المسلمون من غشيانهن ، وأنزل الله تعالى : { والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلاَّ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم } ، أي هن لكم{[828]} .
وتأوله ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وأنس بن مالك ، وجابر وابن عباس في رواية عكرمة : أنه في جميع ذوات الأزواج من السبايا وغيرهن ، وأنهن إذا ملكن حل وطؤهن ، وكانوا يقولون : بيع السيد أمته المزوجة من أجنبي ، موجب للفرقة بينها وبين زوجها . وظن هؤلاء أن الآية عامة ، ولا نظر إلى خصوص النسب ، والصحيح أن ذلك مختص بالسبي الوارد على نكاح غير محترم ، وأن تصرف الرجل في ملكه بالبيع ، لا يبطل حقاً لغيره على وجه اللزوم ، إذا لم يكن بين إثباتهما تناقض ، وليس نكاح المتزوج مانعاً لملك اليمين ، ولو كان مناقضاً لم يجز ابتداء النكاح ، فهذا سبب الاختصاص . وإنما رفع الله نكاح الأزواج الحربييّن ، ليخلص الملك للمسلمين ، وإنما يخلص الملك بانقطاع حق الزوج في المحل ، وإنما ينقطع حق الزوج بسقوط حرمته ، فهذا هو السبب وهو ظاهر .
وفيه سر آخر ، وهو أن انقطاع نكاح الحربي لم يكن لإثبات الحل في حق السابي ، ولكنه لتصفية الملك له ، لذلك لو كانت السبية أخته من الرضاعة ، أو كانت مجوسية ، انقطع النكاح ، فإنه لو لم ينقطع ، لم يصف له الملك ، ولم تنقطع الرحمة والعلقة ، وكان الملك ناقصاً ، ولذلك تنقطع الإجارات والديون والعلق كلها ، فهذا هو السبب فيه .
وأبو حنيفة لا يرى للسبي أثراً ، ويقول : انقطاع النكاح باختلاف الدار ، فإذا سبي الزوجان معاً ، لم ينقطع النكاح .
والذي ذكره بعيد من أوجه : منها : أن المنقول في سبايا أوطاس أنهن كن ستة الآف رجل وامرأة ، فكيف يمكن أن يقال لم يكن فيهم امرأة معها زوجها ، وأنه امتد الأمر حتى اختلفت الدار ؟ والوجه الثاني : أن الله تعالى يقول : { والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم } ، فأحال على ملك اليمين لا على اختلاف الدار ، وجعل ملك اليمين هو المؤثر ، فيتعلق به من حيث العموم والتعليل جميعاً ، إلا ما خصه الدليل .
وهاهنا سؤال : وهو أن يقال : قال : { والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم } ، فإن كان النكاح قد ارتفع فليست محصنة . . قيل : المقصود بذلك رفع الحرج ، بسبب أنها ذات زوج ، وإبانة أنا لا نمسك بعصم الكوافر ، وعلق الحربيين حتى لا يتحرج بذلك السبب ، فمعناه : واللواتي كن ذوات الأزواج إذا سبيتموهن ، فحكمه كذا .
وتمام البيان في ذلك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال في رواية أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس{[829]} : " لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض " ، ولم يجعل لفراش الزوج السابق أثراً ، حتى يقال إنّ المسبية مملوكة ، ولكنها كانت زوجة زال نكاحها ، فتعتد عدة الإماء ، إلا ما نقل عن الحسن بن صالح ، فإنه قال : عليها العدة حيضتان إذا كان لها زوج في دار الحرب .
وكافة العلماء رأوا استبراءها واستبراء التي لا زوج لها واحد في أن الجميع بحيضة{[830]} .
فإذا ثبت ذلك ، فذلك يدل على أنه عند السبي لم يعتبر عصمة الكافر وحرمته ، حتى لم يجب عقدة النكاح أيضاً ، من حيث أن إيجاب عدة النكاح تعويق ينشأ من عصمة الكافر وحرمته ، ولا حرمة الكافر حتى يتعوق بسببه حق المسلم في الملك .
ولو أن المرأة هاجرت إلى دار الإسلام ، أو أسلمت وانفسخ النكاح ، فإنما يوجب عدة النكاح ، فدل أن جواز الوطء المجرد للاستبراء لمكان زوال النكاح لملك اليمين ، لا باختلاف الدار ، وهذا في غاية الظهور لأصحاب الشافعي رحمة الله عليهم وعليه .
قوله تعالى : { وأُحِلَّ لَكُم ما وراء ذَلِكُم } : يحتمل ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم ، ويحتمل ما عدا المحرمات ، وهو الأظهر{[831]} .
قوله تعالى : { وأنْ تَبْتَغُوا بأموالِكُم } : خطاب للأزواج كلهم ، فكأنه قال : تبتغون بأموالكم ، فمقتضاه ابتغاء كل واحد بمال نفسه .
وظن بعض الجهال أن المراد بذلك ، أن كل واحد منهم يصدقها ما يسمى أموالاً ، وظاهره يقتضي أكثر من العشرة ، وحكاية هذا الكلام كافية في الرد على قائله ، كيف وقد قال تعالى : { وإن طَلّقْتُموهُنَّ مِن قَبلِ أن تمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتم لهُنَّ فَرِيضَةً فنِصْفُ ما فَرَضْتُم{[832]} } ؟ وذلك يقتضي إيجاب نصف المفروض قليلاً كان أو كثيراً .
قوله تعالى : { أنْ تَبْتَغُوا بأموالِكُم } : يمنع كون عتق الأمة صداقاً لها ، خلافاً لأحمد ، لدلالة الآية على كون المهر مالاً ، وليس في العتق تسليم مال ، وإنما فيه إسقاط الملك من غير أن استحقت به تسليم مال إليها ، فإن الذي كان يملكه المولى من عبده لم ينتقل إليها وإنما يسقط ، فإذاً لم يسلم الزوج إليها شيئاً ، ولم تستحق عليه شيئاً ، وإنما أتلف به ملكه فلم يكن مهراً ، وهذا بين .
وقد جوز الشافعي رضي الله عنه جعل منفعة الحر صداقاً ، ولا خلاف في منفعة العبيد ، وإنما يجعل صداقاً ، لأنها تستحق عليه تلك المنفعة وهي مال ، ووردت فيه أخبار وهي نصوص ، والشروع فيها خروج عن معاني القرآن ، والذي ورد في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتق صفية ، وجعل عتقها صداقاً ، لا يعارض استدلالنا بالقرآن ، لإمكان أنه كان مخصوصاً له ، فإن نكاحه جاز بلا مهر ، فليس يعارض ذلك استدلالنا بلفظ هو نص في حق الأمة ، وقال أيضاً : { وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتهِنَّ نِحْلَةً فإنْ طِبْنَ لَكُم عَن شيءٍ منهُ نَفْساً فَكُلوهُ هَنيئاً مَرِيئاً{[833]} } ، وذلك يدل على أن العتق لا يكون صداقاً من وجوه : منها أنه قال تعالى : { وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتهِنَّ نِحْلَةً } ، وذلك أمر يقتضي الإيجاب ، وإعطاء العتق لا يصح .
والثاني قوله : { فإنْ طِبْنَ لَكُم عَن شيءٍ منهُ نَفْساً فَكُلوهُ هَنيئاً مريئاً } ، وذلك محال في العتق ، ومتصور في المنفعة .
قوله تعالى : { مُحْصِنينَ غَيرَ مُسافِحينَ }{[834]} : يحتمل وجهين : أحدهما : الإحصان بعقد النكاح ، فتقدير الكلام : اطلبوا منافع البضع بأموالكم على وجه النكاح ، لا على وجه السفاح ، فيكون للآية على هذا الوجه عموم ،
ويحتمل أن يقال : محصنين أي الإحصان صفة لهن ، ومعناه لتزوجوهن على شرط الإحصان فيهن .
وقد قال الشافعي رضي الله عنه : الإحصان مجمل يتردد بين معاني جمة ، فيفتقر إلى البيان .
والوجه الأول أولى ، لأنه متى أمكن جَرْي الآية على عمومها والتعلق بمقتضاها فهو أولى ، ولأن مقتضى الوجه الثاني أن المسافحات لا يحل التزوج بهن ، وذلك خلاف الإجماع . ويدل عليه أيضاً ، أن الله تعالى ذكر نظيره في الإحصان في حق الإماء فقال : { وآتوهُنَّ أجورَهُنَّ بالمَعْروفِ مُحْصَناتٍ غَيرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتّخِذاتِ أخْدانٍ{[835]} } ، ثم قال : { فإذا أحْصِنَّ } معناه فإذا تزوجن . وقال : { فآتوهُنَّ أجورَهُنَّ بالمَعْروفِ مُحْصناتٍ } :
فتقدير الكلام على هذا : { وأُحِلَّ لَكُم ما وراءَ ذلِكُم أن تبتغوا بأمْوالِكُم } غير زنا ، وهذا كلام ظاهر المعنى ، ومقتضاه : إطلاق لفظ الإباحة ، على وجه التعميم ، وفيه إخبار عن كونها محصنة .
والإحصان في الأصل هو{[836]} المنع ، فقد يطلق على العقد ، لأن صاحبه يمنع نفسه من الحرام ، ويطلق على الإسلام . قال الله تعالى : { فإذا أحْصِنّ } ، روي في بعض الأخبار : إذا أسلمن ، وإن كان له معنى آخر ذكرناه . وقال تعالى : { والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ } : ذوات الأزواج ، وسميت محصنة لأن النكاح يحصنها من السفاح . وفي الخبر : من تزوج فقد حصن ثلثي دينه{[837]} . وتقول الفقهاء : الإحصان معتبر في الرجم .
ويقولون : هو معتبر في حد القاذف ، وتختلف معانيهما والأحكام المعتبرة فيهما .
وسمي الزنا سفاحاً لأنه سفح الماء وهو صبه ، يقال : سفح دمه ، وسفح الجبل أسفله ، لأنه موضع مصب الماء ، وسافح الرجل إذا زنى ، لأنه صب ماءه من غير أن يلحقه حكم مائه في ثبوت النسب ، ووجوب العدة وسائر أحكام النكاح .
ويسمى الزاني مسافحاً ، لأنه ليس يتعلق به حكم ثابت مستمر ، وهو نسب أو عدة أو مهر ، ويفهم من ذلك أن لا نسب ولا فراش ، ولأجل ذلك لم يثبت الشافعي رضي الله عنه التحريم والعتق في المخلوقة من ماء الزنا ، واقتضى ذلك أيضاً أن لا يثبت في حقها النسب ، لأنها مسافحة ، كما أنه مسافح ، ولكن انفصال الولد منها محسوس ، فلا يمكن تضييع حق الولد مع أن فيه خلافاً لبعض أهل العلم ، أخذاً بلفظ المسافحة ، وتحقيق الفرق بين جانبه وجانبها في النسب ، ذكرناه على الاستقصاء في مجموعاتنا في الخلاف .
قوله تعالى : { فَما اسْتَمْتَعْتم بهِ مِنْهُنَّ فَآتوهُنَّ أجورَهُنَّ فرِيضَةً } : ذكر الله تعالى ذلك بعد قوله تعالى : { أنْ تَبْتَغوا بأمْوالِكُم } ، وذلك يقتضي بيان حكم الدخول في النكاح المذكور أولاً ، وأنه لا يجوز حط شيء ، وحبس قدر ما من المهر ، بأي سبب طارىء . ولو لم يقدر ذلك ، لم يفهم من قوله تعالى : { فَما اسْتَمْتَعْتمْ به مِنْهُنَّ } معنى بوجه ما ، فإن الله تعالى أمر بابتغاء البضع بالأموال قبل الاستمتاع ، فذكر الاستمتاع ينبغي أن يكون سبباً لأمر ما ، وليس هو إلا تقدير الصداق المذكور أولاً ، حتى لا يتوهم سقوط شيء منه لعارض .
وظن ظانون أن هذه الآية وردت في نكاح المتعة{[838]} ، وأن المهر فيه يتعلق بالدخول لا بنفس العقد ولا ميراث فيه . ونقل عن ابن عباس أنه تأول قوله : { فَما اسْتَمْتَعْتم بهِ مِنْهُنّ } إلى أجل مسمى { فَآتوهُنَّ أجورَهُنّ } .
وروي عنه انه رجع عن ذلك لأخبار كثيرة وردت في النهي عن متعة النساء ، وتحريم لحوم الحمر الأهلية ، ومن رواة الحديث على .
وروي عن ابن عباس أنه قال : نسخه قوله تعالى : { إذا طَلّقْتم النِّساءَ } ، وأشار به إلى أنه لا نكاح إلا له طلاق ، وإلا له عدة ، وإلا فيه ميراث ، والله تعالى يقول : { والّذينَ هُم لِفُروجِهِم حافِظونَ إلاَّ عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانهِمْ{[839]} } .
والذي ذكره هؤلاء في معنى قوله تعالى : { فَما اسْتَمْتَعْتم بهِ مِنْهُنَّ } الآية ، لا يحتمل ما ذكره هذا القائل الذي حمله على نكاح المتعة{[840]} ، فإن الأجر بمعنى المهر ، قال تعالى : { وَلا جناحَ عَلَيْكم أنْ تَنْكِحوهُنَّ إذا آتَيْتُموهُنَّ أجورَهُنَّ{[841]} } ، فلما ذكر النكاح علم أنه أراد به الصداق ، وقال تعالى : { وآتوهُنَّ أجورَهُنَّ بالمعْروفِ مُحصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ } : فدل على أن محصنات ومحصنين عنى به التزويج ، لأن محصنات ذكر مع النكاح ، لقوله تعالى : { فانْكِحوهُنَّ بإذنِ أهْلِهِنَّ وآتوهُنَّ أجورَهُنَّ بالمعْروف مُحصَناتٍ غَيرَ مُسافِحاتٍ } .
قوله تعالى : { ولا جُناحَ عَلَيْكُم فيما تراضَيْتُم بهِ مِنْ بَعْدِ الفَريضَةِ } :
معناه جواز الإبراء عن بعض الصداق أو هبة بعضه ، وتقدير الكلام : أن تبتغوا بأموالكم محصنين - أي متزوجين - بهن ، فإذا استمتعتم بهن فآتوهن أجورهن ، ولا تنقصوا شيئاً ، وإن جرى فراق أو سبب ، إلا أن تكون قد حطت شيئاً من الصداق ، فالحق لها ، والمحطوط لا يجب توفيره عليها إذا استمتع . واستدل قوم بذلك على جواز الزيادة ، وذلك غلط ، فإن الآية ما وردت في موضع الزيادة ، فإنه لما قال تعالى : { فآتوهُنَّ أجورَهُنَّ فَريضّةً } ، اقتضى جواز إعطاء ما فرض لها أولاً ، فقوله : { وَلا جُناحَ عَلَيْكُم } يرجع إلى الرخصة في ترك الإيتاء ، بعد الأمر بالإيتاء في غير موضع الرخصة ، وهذا بين لا شك فيه .
فإن قيل : فقد قال تعالى : { فيما تَراضَيْتُم } ، والإبراء لا يتوقف على تراضيهما . . الجواب : أن الإبراء وإن كان على المذهب الصحيح ، لا يتوقف على تراضيهما ، فالهبة موقوفة على ذلك ، والإبراء في أحد الوجهين لأصحابنا وإن لم يقف ، فالمعلوم العرف أن ذلك يجري بتراضيهما ، والمقصود بقوله : { فَآتوهُنَّ أجورَهُنَّ } ، طيبة قلبها ، وأن لا ينقص من أجرها شيئاً ، والإبراء يصدر منها .
وقال : { فَآتوهُنَّ أجورَهُنَّ } ، إلا إذا طابت نفسها ، وقد صرح بذلك في موضع آخر فقال : { وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتهِنَّ نِحْلَةً فإن طِبْنَ لَكُم عَن شيءٍ منهُ نَفْساً فَكُلوهُ هَنيئاً مرِيئاً } : فهذا المشكل من هذه الآية ، يعرف من المبين المحكم في الآية الأخرى ، ويدل عليه أن الله تعالى يقول : { وإنْ طَلّقْتُموهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تمَسُّوهُنَّ وقَد فَرَضْتم لهُنَّ فَريضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتم{[842]} } : فجعل عند الطلاق شطر المفروض ، وإذا تبين ذلك ، فهذا الذي زيد ، إن كان صداقاً كان مفروضاً ، فإذا طلقها وقد فرض لها ، فيجب أن يشطر ذلك ، فإن الله حكم بتشطير نصف المفروض .