قوله تعالى : { ومَن لَم يَسْتَطِعْ مِنكُم طَوْلاً أن يَنْكِحَ المُحصَناتِ } الآية [ 25 ] : اعلم أن التعرض لإحدى الصفتين المتضادتين ، والنزول عن كلام مطلق ، يدل قطعاً على أن التقييد المذكور مقصود ، لتعلق الحكم عليه ، وأنه يجوز إلغاؤه ، نعم قد يجوز أن يذكر أحد الحالتين ، والمسكوت عنه أولى بالحكم المذكور من المنطوق به ، فيتعرض لإحدى الحالتين تنبيهاً على ما هو أول بالحكم من المذكور ، ولو أطلق الحكم لأمكن استثناء المذكور : بيانه أنه تعالى ، قال : { وَلا تقْتلُوا أوْلادَكُم خَشْيَةَ إمْلاقٍ }{[843]} إلى قوله { إنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْئاً كَبيراً } : والقتل محرم عند زوال هذه الحالة لأنه لو قال : " ولا تقتلوا أولادكم " مطلقاً ، أو قال : " ولا تقتلوا أولادكم حال غناكم " ، لأمكن أن يتوهم جواز ذلك حالة الشقاق والإملاق ، لئلا يشقى المولود له في تربيته فقال : { وَلا تَقْتُلوهُنَّ خَشْيَةَ إمْلاقٍ } لعذر الإملاق ، { نحْنُ نَرْزُقُهُم وإياكُم } ، فهذا يسمى التنبيه ، ومثله قوله تعالى : { لا تَأكُلوا أضْعافاً مُضاعفة{[844]} } ، فحرم الربا ، وإن كان له فيه النفع الكثير ، فإذا لم يجوز لغرض عظيم ، فتحريمه لما دونه أولى ، وقال : { ومَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ لا بُرهانَ لَهُ بهِ{[845]} } ، ليس أنه يتصور أن يقوم عليه برهان ، ولكن المشركين قالوا لا نترك ديننا ودين آبائنا ، فذم التقليد واتباع السلف وترك البرهان والإعراض عن الدليل .
ففي أمثال ذلك يجوز تخصيص إحدى الحالتين ، تنبيهاً على ما هو الأولى بالحكم المذكور من الحالة الأخرى . أما هاهنا فإنما تعرض لحالة الضرورة في جواز النكاح ، فلا يقال حال عدم الحاجة أولى بجواز نكاح الأمة ، والأمة في هذا المعنى أوفى من الحرة ، فإذا تبين ذلك ، فذكر حالة الحاجة تنبيه على جعل الحاجة علة الإباحة ، فإذا لم توجد الحاجة تحرم ، فإن الذي يفهم من ثبوت الحاجة ، وأن ثبوته كان لأجلها ، يعلم انتفاؤه عند عدم الحاجة ، وهذا مقطوع به .
وإنما ذكرنا هذه الأمثلة ، وأجبنا عليها لأن الرازي{[846]} لم ير لهذه الآية دلالة على ضد المذكور عند عدم الحاجة ، ورأى أن ذكر الحاجة في إباحة النكاح ، تنزل منزلة ذكر الإملاق والحاجة في تحريم القتل ، ولم يجعل لهما مفهوماً{[847]} ، وقد غلط{[848]} من وجهين : أحدهما{[849]} : أن كل ما استشهد به له مفهوم وفحوى ، ولكنه من قبيل مفهوم الموافقة والتنبيه بالمذكور على مثله في غير المذكور ، والقسم الآخر مفهوم المخالفة ، وهو التنبيه بالمذكور على خلافه الذي لم يذكر ، وهذان قسمان يعرفان لمحال الخطاب ، ومواضع الكلام ، ومواقع العلل والمعاني .
والرازي ظن أن الأدلة في القسمين على ما عدا المذكور ، فأبان من نفسه جهله بنوعي المفهوم وقال : وبينا ذلك في أصول الفقه ، فظلم نفسه بالتصدي للتصنيف في الأصول ، قبل معرفة هذه الأمور الجلية ، كما ظلم نفسه بالتصنيف في معاني القرآن وأحكامه ، قبل إحكام معانيه .
فإذا ثبت ذلك ، فيبقى هاهنا نظر ، وهو أنه إن قال قائل : قد وردت ألفاظ عامة في النكاح مثل قوله تعالى : { فانْكِحوا ما طابَ لَكُم مِنَ النِّساءِ } إلى قوله { أوْ ما مَلَكَتْ أيمانُكُم } ، وادعى هذا المحتج به أن معناه : أو نكاح ما ملكت أيمانكم ، وهذا غلط ، فإن معناه : { فإنْ خِفْتم ألاّ تَعْدِلوا فَواحِدَةً{[850]} } ، لا يخشى فيه الجور ، أو ما ملكت أيمانكم ، فإن العدل في العدد فيه غير واجب أصلاً ، بل يبقى لهم التعلق بالعموم ، وتعلق أيضاً بقوله : { والمُحْصَنَاتُ مِنَ المؤمِنات ، والمُحْصَناتُ مِنَ الّذينَ أوتوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُم }{[851]} وقوله : { وأَنْكِحوا الأيامَى مِنْكُم{[852]} } ، فزاد أن الاحتجاج بالعموم يقاوم الاحتجاج بالمفهوم ، وهذا ركيك من القول ، فإن ما احتجوا به من العمومات سيق للحرائر ، ودل عليه سياق الآيات : { وآتوا النِّساءَ صَدُقاتهِنَّ نِحْلَةً{[853]} } .
وقوله : { والمُحصَناتُ مِنَ النِّساءِ } : عنى به الحرائر ، فإنه تعالى قال بعده بكلمات وتخلل فاصل : { وَمَنْ لَم يَسْتَطِعْ مِنْكُم طَولاّ{[854]} أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المؤمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمانُكُم مِن فَتَياتِكُم المؤمِناتِ{[855]} } ، فدل أن المراد بالمحصنة في الآية الحرة ، فإن الإحصان يطلق بمعنى الإسلام ، ولا يحتمل هاهنا مع قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ المؤمِناتِ } ، مع قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ الّذينَ أوتوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُم } .
فذكروا أن المراد به التزويج ، ولا يحتمل ها هنا ، فإن المحصنات من النساء يعني المتزوجات في أقسام المحرمات ، فإذا بطل ذلك ، فلا يحتمل إلا معنى الحرة . وقد أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالمحصنات هاهنا الحرائر ، ودل السياق عليه في ذكر نكاح الأمة{[856]} ، نعم قال تعالى : { ومَنْ لَمْ يَسْتَطع مِنْكم طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحَصّناتِ المُؤمِنَاتِ } ولم يقل : " واللواتي أوتين الكتاب من قبلكم " ، فوقع الشرط في المؤمنات دون الكتابيات ، فلا جرم ، قال قائلون من أصحابنا : لو قدر على نكاح الكتابية دون نكاح المسلمة ، فجائز له نكاح الأمة .
ويلزم عليه على مذهب الشافعي رضي الله عنه جواز إدخال الأمة على الحرة الكتابية . وفيه خلل من وجه آخر ، وهو استواء نكاح الكتابية والمسلمة في الأحكام كلها ، وإذا كانت القدرة على نكاح المسلمة مانعة نكاح الأمة ، فإذا لم يمتنع نكاح الأمة بالقدرة على نكاح الحرة الكتابية ، فالقدرة على نكاح المسلمة كذلك ، فإن القدرة على مثل الشيء كالقدرة على الشيء . وفيه أيضاً بطلان فهم معنى إرقاق الولد ، وأن ذلك مانع{[857]} ، وأن هذا موجود في نكاح الحرة الكتابية ، فهذا تمام هذا النوع .
والأصح أنه لا فرق بينهما ، وأن القدرة على مثل الشيء كالقدرة على الشيء .
الوجه الآخر في الجواب : أن هذه العمومات ما قصد بها تفصيل شرائط النكاح ، من الشهادة والولاية ، والخلو عن العدة ، وإنما قصد بها الندب إلى أصل النكاح ، فأما الشرائط فلا ذكر لها ، والذي يطلق القول العام ، لا يخطر له الشرط في نكاح الأمة .
فأما إذا قال : { ومَنْ لَمْ يَسْتَطِع مِنْكُم } الآية ، مع قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشَيَ الْعَنَتَ مِنْكُم } ، فلا بد وأن يكون قاصداً إبانة شرط ، ولم يقصد به نزولاً عن كلام عام ، وإبانة وجه خاص ، كان قوله هجراً ركيكاً ، فقصد التفرقة بين الحالتين ضروري في هذا الكلام ، والتعرض للشرائط لا يظهر في العمومات التي ذكروها . فليفهم الفاهم هذا ، فإنه مقطوع به ، ولا يهتدي إليه إلا الموفقون المتعمقون في العلم .
ومما يعارضون به ما قلناه ، أنه تعالى قال : { ولأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ{[858]} } . . . قالوا : وذلك يجوز نكاح الأمة مع القدرة على مهر المشركة ، والقادر على مهر المشركة ، قادر على مثله في حق المسلمة ، وهذا ركيك جداً .
فإن المراد به : أنهم كانوا لا يعافون عن نكاح المشركات ، ويعافون من نكاح الإماء خيفة إرقاق الولد ، فأبان الله تعالى أن الأمة مع إفضاء نكاحها إلى رق الولد ، خير من المشركة التي لا يجوز نكاحها قط ، والأمة يجوز نكاحها في بعض الأحوال ، فهذا تمام الرد على هؤلاء في محاولة المعارضة .
وحكى القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي عن السلف مذاهبهم في هذه الآية وفق مذهبنا{[859]} ثم قال : وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم قالوا : لا بأس أن يتزوج الحر المسلم الأمة ، مع وجود الطول إلى حرة ، من غير خشية العنت ، ثم قال : هذا قول تجاوز فساده فساد ما يحتمل التأويل ، لأنه لا محظور في كتاب الله تعالى إلا على الجهة التي أبيحت ، ثم وجّه على نفسه سؤالاً فقال : يمكن أن يقول ذلك على الاختيار لا على التحريم .
فأجاب أنه قد بين موضع الاختيار لهم من موضع الحظر بقوله تعالى : { وأَنْ تَصْبِروا خَيْرٌ لَكُم } ، فكان هذا موضع الاختيار ، ولو كان الأول على الاختيار لهم لم يحتاجوا إلى اختيار ثان ، فحيث جاز ، وهو عند خوف العنت ذكر موضع الاختيار ، فعند عدم الخوف ، يستحيل أن يبقى الأمر على ذلك الاختيار . والذي ذكره كلام صحيح .
وحكى الرازي هذا من كلامه أول كلامه ، في أنه لا يحتمل التأويل ثم قال : وقد اختلف السلف فيه ولو كان فيه نص ما اختلفوا ، نقل عن علي مثل ذلك ، ولم يثبت ذلك الذي صح . ونقل إسماعيل{[860]} القاضي عن علي أنه قال : لا ينبغي للحر أن يتزوج الأمة وهو يجد طولا ينكح به الحرة ، فإن فعل فرق بينهما وعزر{[861]} . وعن ابن عباس أنه قال : من ملك ثلاثمائة درهم وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الأمة . ثم الاحتجاج بالنص على وجهين : منه ما يستوي في درك معناه الخاص والعام ، ويعلم ذلك بأوائل الأفهام ، فهذا لا يختلف فيه ، وما لا يعلم إلا بالارتياء والبحث ، فهذا يجوز أن يختلف فيه ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإذا ثبت ذلك .
ثم حكي عن داود الأصبهاني في حق إسماعيل شيئاً ، وذكر ما يدل على تهجينهما وسوء اعتقاده فيها ، وليس ذلك ببعيد منه ، فإنه كان مكفرهما ، لمخالفتهما له في الاعتزال ومذهب أهل البدعة والقدر ، وقد شحن كتابه المصنف في أحكام القرآن بالرد على أهل السنة ، وتسميتهم مرجئة ومجبرة ، ويتجمل بالاعتزال ويتظاهر به ، عليه وعليهم ما يستحقون . وذكر وجهاً آخر فقال : إن خوف العنت وعدم الطول ليسا بضرورة ، لأن الضرورة ما يخاف فيها فساد النفس أو فساد عضو ، وليس في عدم الطول ذلك ، لذلك لم يجز هذا العذر نكاح الأمة الكتابية عند الشافعي رضي الله عنه ، ولا نكاح المشركة بالاتفاق ، فإذا ثبت ذلك ، استوى وجود هذا العذر وعدمه .
وهذا يدل على جهله بأوضاع الأصول وقواعد الأحكام ، فإن الذي جوز لمكان الحاجة ، ينقسم أقساماً ويترتب على أبحاث مختلفة ، فمنها ما يعتبر فيه غاية الحاجة ، ومنها ما يعتبر فيه دون ذلك ، كالتيمم عند عدم الماء ،
ومنها ما يعتبر فيه مظنة الحاجة لا صورتها ، ومنها ما يعتبر فيه ضرر ظاهر ، وإن لم يفض إلى هلاك نفس أو فساد عضو ، كالقيام في الصلاة ، والصيام في المرض ، والجمع بين الصلاتين ، فيجوز أن يجعل خوف العنت داخلاً في أقسام الحاجات ، وإن كان الأمر في الكتابية الأمة والمجوسية أعظم من ذلك ، فلا يحل بهذا النسب . ثم مراتب تلك الحاجات مختلفة تعلم بالأدلة الشرعية ، فليس فيما ذكره ما يرفع التعلق بالعموم من هذه الآية .
وحكى عن أبي يوسف القاضي أنه قال : تأويل الآية : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِع مِنْكُم طَوْلاً } لعدم الحرة في ملكه ، وقال : وجود الطول هو كون الحرة تحته ، فلزمه على هذا أن من ليس عنده حرة فهو غير مستطيع للطول إليها ، فالطول عنده هو وطء الحرة ، وهذا التأويل في غاية الضعف فإنه لما قال : { ومَنْ لَمْ يْسْتَطِع } ، فيقتضي أن يكون غير مستطيع أمراً ، والذي لا حرة تحته ، قادر على نكاح الحرة ووطئها إذا نكح .
فإن قال : هو عاجز في الحال قبل النكاح ، فلا يخفى أن في مثل ذلك لا يقال هو غير مستطيع للوطء ، وإنما الطول الفضل والغنى ، قال الله تعالى : { اسْتَأذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُم{[862]} } ، وعلى أن الذي الحرة عنده لا ينكح الأمة{[863]} ، وإن كان عاجزاً عن وطئها كالغائبة والصغيرة والرتقاء ، فلا حاصل لهذا التأويل بوجه ، فكيف يتوهم ذلك وقد قال تعالى : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشي العَنَتَ مِنّكُم } ، والقادر على نكاح الحرة ، كيف يخشى العنت إذا عشقها وصار مفتتناً بها ؟ فيقال في الجواب عنه : فإذا عندك لا يعتبر الخوف من هذا الوجه ، فلا وجه لاعتباره .
نعم هاهنا دقيقة ، وهي : أن الحرة إذا كانت في نكاح الحر عندنا ، فلا تحل له الأمة ، سواء خاف العنت أو لم يخف ، وسواء قدر على الحرة أم لم يقدر ، كغيبتها أو رتقها ، فليس يحرم نكاح الأمة هاهنا لوجود الطول ، أو لأمن العنت ، بل لعين نكاح الحرة .
وكان الشافعي رضي الله عنه يقول : الظاهر من وجود النكاح الطول والأمن ، فلا مبالاة بنكاح نادر لا يفضي إلى ذلك بل يحسم الباب .
نعم الغيبة عن ماله جعلت عدماً شرعاً في أصل آخر ، وهو جواز أخذ الصدقة ، فيلقى ذلك من ذلك الأصل ، فلم يمكن اعتبار غيبة المال بالنادر الذي لا ينظر إليه .
وهاهنا مذهب لمالك وهو أنه يقول : إذا كانت الحرة معه وهو غير واجد للطول في حق أخرى ، ويخشى لعشقه أن يزني بالأمة ، فله التزوج بالأمة والحرة في حيازته .
فقيل لهم : فإذا قلتم مع وجود الحرة يتزوج بالأمة ، فقدرته على طول أخرى لا يزيد على هذه الحرة ، فوجود هذه الحرة إذا لم يمنع ، فالقدرة على مثلها في الابتداء لم يمنع ، وكيف ينتظم ذلك وأبو حنيفة لما قال : وجود الحرة يمنع والقدرة لا تمنع ، كان ذلك أمثل من قول مالك في هذا .
وقد حكى ابن وهب عن مالك ، أنه لا بأس أن يتزوج الرجل الأمة على الحرة ، والحرة على الأمة ، والحرة بالخيار{[864]} . وقال ابن القاسم في الأمة تنكح على الحرة ، أرى أن يفرق بينهما ، ثم رجع فقال : تخير الحرة إن شاءت أقامت وإن شاء فارقت . فوجه إسماعيل المالكي على نفسه هذا السؤال ، وأراد أن يفصل بين جرة موجودة معه ، وبين القدرة على حرة ، فإن الوجود لا يمنع ، والقدرة تمنع فقال : إن الذي عنده حرة قد تزوجها ، فليس له بعد الامتحان أنه يخاف العنف ، وإن عشق الجارية لا يندفع بنكاح الحرة ، والذي يريد أن يتزوج وهو يجد ، الطول فهو شاك ، فلعله إذا تزوج حرة زال خوف العنت وأنس بها ، فنحن اعتبرنا عدم الطول عند خوف العنت ، فما لم يقع الأمن ، فهو شاك لا يدري أيخاف أم لا ، فإذا وقع وهو متيقن أنه قد خاف ، فهو الموضع الذي قد أبيح ؟
وهذا في غاية الركاكة ، وحاصله أن القدرة مانعة للنكاح الذي اعتبرت مانعة لأجله ، وإن نكح حرة وهو قادر فلا ينكح ، وإن نكح حرة وخرج عن كونه قادراً فله نكاح الأمة ، وجعل القدرة مانعة ، من غير أن يكون المنع لأجل المقدور عليه وهو النكاح ، وهذا في غاية البعد .
قوله تعالى : { مِنْ فَتَياتِكُم{[865]} المُؤْمِنَاتِ{[866]} } : يدل على اعتبار الإيمان على الوجه الذي تقدم ذكره في أول الآية ، وكيفية الاستدلال بها .
ومن الجهالات العظيمة قول الرازي : إن قوله تعالى : { والمُحْصَناتُ مِنَ الذيِنَ أوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم } يتناول الإماء والكتابيات ، مع أنه تعالى ذكر ذلك ثم قال : { ومَنْ لَمْ يَستَطِع مِنْكُم طَوْلاً أن ينكِحَ المُحصَنَاتِ المؤمِناتِ فمِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُم من فَتَياتِكُم المُؤمِنَاتِ{[867]} } ، فأبان أن إطلاق المحصنة ما تناول الأمة المؤمنة ، أفتراها متناولة للكافرة ؟ وذلك في غاية الركاكة .
نعم هاهنا شيء ، وهو أنه إن قال قائل : قد أبان الله تعالى أقسام المحرمات بالرضاع وبالنسب ثم قال : { وأُحلَّ لكُم ما وَرَاءَ ذَلِكُم } : فأشبه أن يكون ما بعده تعرض لبيان ما يكره من الأنكحة وما لا يكره مع الإجزاء ، ليكون كتاب الله تعالى مستوعباً للقسمين ، فأبان بعد قوله : { وأُحلَّ لكُم ما وراءَ ذلِكُم أَنْ تَبْتَغُوا بأَمْوالِكُم محصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحيِنَ } ، وقال بعده : { ومَنْ لَمْ يَسْتَطِع مِنْكُم طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤمِنَاتِ } لإبانة المكروه من النكاح ، ولذلك قال : { مُحصَنَاتٍ غَيرَ مُسَافِحَاتٍ ولاَ مُتّخِذاتِ أَخْدَانٍ } ، وقال : { المُحْصَنات المؤمناتِ } ، ولو نكح غير مؤمنة يجوز ، لأن القصد بيان المكروه لا بيان المحرم .
والجواب عنه ، أن المقصود بالأول بيان حكم المحرمات اللواتي لا تحل بحال ، وذكر بعده ما يجوز أن يباح في بعض الأحوال ، وذكر بعده ما يحرم لفقد شرط في العقد ، لا لتحريم في المحل ، فلم يقل المحل محرم ، ولكنه أبان عن شرط العقد .
ودل على بطلان هذا التأويل قوله تعالى : { وأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُم } .
ودل عليه أيضاً قوله : { والمُحصَناتُ مِنَ الذِينَ أوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم } ، مع أن نكاحها مكروه ، فهذا يدل على بطلان التأويل قطعاً .
إذا تمهد هذا الأصل ، فيبقى بعده النظر في أن الشافعي رضي الله عنه يجوز للعبد نكاح الأمة مع الحرة ، وقوله تعالى : { ومَنْ لَمْ يَسْتَطِع مِنْكُم طَوْلاً } ، عام في الجميع . فقال الشافعي رضي الله عنه : لا طول للعبد{[868]} . فقيل له : إذا كانت الحرة تحته فهو مستطيع ؟ فقال : النكاح لا يسمى طولاً ، فإنما جعلنا نكاح الحرة في حق الحرة مانعاً لا بحكم الآية{[869]} ، لا سيما ومساق الآية يدل على الاختصاص ، فإنه تعالى قال : { فَانْكَحُوهُنَّ بإذنِ أَهْلِهِنَّ } فاعتبر إذن أهلهن ولم يتعرض لإذن المولى في حق المتزوج ، فدل أن الآية للأحرار .
فكأنا نتعلق بالعموم في قوله : { وأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُم والصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُم وإمَائِكُم }{[870]} الآية ، إلا فيما استثنى ، والاستثناء بالشرط وقع في حق الحرة ، فبقي العبد على الأصل في العموم ، وهذا واضح فاعلمه . ولما لم يكن اللفظ متناولاً لنكاح الأمة عند إدخال الحرة على الأمة ، لا جرم قال الشافعي رضي الله عنه : إن الله تعالى جوز نكاح الأمة لخوف العنت ، ولم يكن هذا الخوف نسخاً محرماً من الإبضاع في شيء من أصول الشرع ، فكان هذا خاصاً في هذا الحكم ، فلم يكن لنا أن نتوسع في الاعتبار ، فإذا صار هذا المعنى مانعاً ابتداء النكاح ، فلا يمكن أن يجعل على خصوصه ، وخروجه عن أصول الشرع ، قاطعاً دوام النكاح الذي هو أثبت من الابتداء ، بل يقتصر على ما ورد{[871]} ولا يتعدى ، كما اقتصرنا على الحر ولم نتعده ، وليس يتبين لنا أن العبد مثل الحر في هذا المعنى الدقيق المتعلق بالتفصيل ، ويترقى الكلام في هذا التفصيل والتصرف في غوامض هذه المراتب إلى أعلى الغايات في الدقة ، والمتأمل يعرف به بعد غور الشافعي ، ولطف نظره في مغمضات الأصول ومآخذ الأحكام ، والله تعالى يوفقنا للوقوف على معاني كلامه .
قوله تعالى : { فانْكِحُوهُنَّ بإذنِ أَهْلهِنَّ{[872]} } : دليل على اشتراط الإذن في نكاحها ، والرازي يسلم ذلك{[873]} ، واحتج بأن جعله شرطاً ، وترك لأجله العمومات في نكاح العبد والحر ، وما أسرع ما نسي سابق قوله : فإن تخصيص الإباحة بحال وشرط لا يدل على نفي ما عداه ، ثم قال : ما نعلم أحداً استدل به قبل الشافعي ، ثم قال : ولو كان هذا دليلاً لكانت الصحابة أولى بالسبق إلى الاستدلال به في هذه المسألة ونظائرها من المسائل ، مع كثرة ما اختلفوا{[874]} فيه ، ثم على قرب العهد بهذا الكلام استدل بمثله ، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عموم الأحوال أنه قال : إذا تزوج العبد بغير إذن سيده فهو عاهر{[875]} .
فإن احتج من يجوز التزويج بها بإذن سيده بقول تعالى : { فانْكِحوهُنَّ بإذنِ أهْلِهِنَّ } وأن اللفظ بعمومه يدل عليه ، والشافعي رضي الله عنه يقول بموجب الآية ، فإنه لا يجوز نكاحها إلا بإذنها ، وليس فيه أن الإذن المجرد كفى عما ليس فيه بإسقاط سائر الشرائط عند وجود الإذن{[876]} .
قوله تعالى : { وآتُوهُنَّ أجُورَهُنَّ بالمعرُوفِ{[877]} } : يدل على وجوب المهر لها في عموم الأحوال .
وقوله : " بالمعروف " ، يمنع الغلو في المهر والتقصير ، فأضاف الأجور إليهن لوجوبه بسبب نكاحهن ، وتقديره : فانكحوهن بإذن أهلهن ، وآتوهن أجورهن بإذن أهلهن ، فإنه كلام مفيد بنفسه لا حاجة إلى تعليقه على غيره ، فتم الكلام بنفسه . وروى عن مالك أن الأمة تستحق المهر ، وهذا بعيد ، فإنها لو كانت قابضة للمهر إلى نفسها ، لكانت مستحقة للأجرة إذا أجرها السيد . وربما قال : النكاح حقها ، ولذلك لا يجوز تزويجها من مجبوب ، وإذا زوجت فلها الخيار إذا علمت{[878]} ، وربما يقال : لا ينعقد العقد ، وليس نكاح الأمة نقل الملك إلى غيره ، بل هو إثبات الحق في منافع بضعها للزوج على وجه لم يكن ، فلذلك لم يجز النكاح بلفظ التمليك عند أكثر العلماء ، وهذا كلام له وجه ، إلا أن المهر لا تملكه المرأة{[879]} ، لأجل أنها لا تملك شيئاً ؛ والعبد إذا خالع زوجته فلا يملك البدل عندنا ؛ وإنما ذلك للسيد ، لأن للسيد حقاً في منافع بضع العبد ؛ ولكنه لما لم يملكه العبد ، كان السيد أحق به .
ولعل مالكاً يقول أيضاً في الأمة إذا وطئت بالشبهة ، أن المهر يكون لها ، وهذا مبني على أن العبد هل يتصور أن يكون له ملك مستقل به ، والمسألة فرع ذلك الأصل . ثم إن إسماعيل بن إسحاق المالكي قال : زعم بعض العراقيين أنه إذا زوج أمته من عبده فلا مهر ، وهذا خلاف الكتاب والسنة ، وأطنب فيه .
وأجاب الرازي عن ذلك : بأنا نوجب المهر ، ولكنه يسقط بعد الوجوب لئلا يكون استباحة البضع بغير بدل ، ثم يسقط في الثاني حتى يستحقه المولى ، لأنها لا تملك والمولى هو الذي يملك{[880]} مالها ، ولا يثبت للمولى على عبده ديناً{[881]} ، وهو مثل قول بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه في وجوب القصاص على الأب ثم سقوطه .
والذي ذكره الرازي لا يقطع تشغيب إسماعيل ، فإنه إنما شنع بأمر فقال : أفيجوز أن يكون الصداق فَرضاً من فرض الله تعالى لحرمة البضع حتى لا يتبذل دون الصداق ثم يغشى النساء من غير مهر ؟ والرازي إن قال له : يجب بنفس العقد فلا يقول : إنه يجب عندنا لغشيان شيء . ولا شك أن الوطء يعري عن المهر في حق الأمة المزوجة ، وفيه بشاعة ، فإن الغشيان كيف خلا عن وجوب المهر ، وعلى أن إيجاب المهر في هذا العقد فيه إشكال ، فإن المهر لو وجب لوجب لشخص على شخص ، فمن الذي أوجب له وعلى من وجب ؟
فإن قلت : وجب للسيد على العبد ، فهذا محال أن يثبت له دين على عبده .
وإن قلت : وجب لا على أحد ، فمحال ، وكما أن العقد يقتضي الإيجاب ، فالملك يقتضي الإسقاط ، وليس له إيجابه ضرورة الإسقاط ، كما يقال : إن إثبات الملك للابن ضرورة العتق ، فإن العتق لا يتصور بدون الملك ، فأما إسقاط المهر فلا يقتضي إثباته ، بل يمكن أن يقال : لا يجب المهر أصلاً بوجه من الوجوه ، فإنه لو وجب لوجب للسيد ، وهذا بيّن في نفسه ، وهو الصحيح من مذهبنا .
وأما استبعاد إسماعيل بن اسحاق ، فلا وجه له ، لأن الله تعالى أوجب المهر إذا أمكن إيجابه ، وقد دل الدليل على أن العبد لا يملك بالتمليك أصلاً ، وإذا لم يملك ولا بد من مالك ، والسيد استحال أن يكون مالكاً ، فامتنع لذلك ، فيكون الكلام عائداً إلى أصل آخر ، وهو أن العبد هل يملك أم لا ؟ ويخرج عن مقصودنا .
قوله تعالى : { مُحْصَنَاتٍ{[882]} غَيرَ مُسَافِحَاتٍ{[883]} } : قد مضى بشرحه ، وبينا أن معناه أن يكون العقد عليها بنكاح صحيح ، وأن لا يكون الوطء على وجه الزنا : لأن الإحصان هو النكاح ، والسفاح هو الزنا . { ولاَ مُتّخِذاتِ أَخْدانٍ{[884]} } : يعني لا يكون وطؤها على حسب ما كان عليه عادة الجاهلية في اتخاذ الأخدان ، قال ابن عباس : كان قوم منهم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما بطن وخفي منه .
والخدن هو الصديق للمرأة زنى بها سراً ، فنهى الله عز وجل عن الفواحش ما ظهر منها ومن بطن ، وحرم الوطء إلا على ملك نكاح أو ملك يمين ، ويقرب منه نهي النبي عليه السلام : عن مهر البغي{[885]} ، فإنه يرجع إلى أنه أوجب المهر لحرمة الوطء وحرمة سبب الوطء ، وأما البغي فلا مهر لها .
قوله تعالى : { فَإذَا أُحصِنَ فَإنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ{[886]} } : فقال قوم : " فإذا حصن " بالضم يدل على التزويج ، ويفهم منه أن الأمة لا يجب عليها الحد وإن أسلمت حتى تتزوج ، وهو قول ابن عباس . ومن قرأ بالفتح حمله على الإسلام ، وأن عليها الحد إذا أسلمت وهو قول أكثر العلماء في معنى الآية ، ولا عبرة بالمعنيين في إيجاب الحد ، فإن الحد واجب على الآمة الكافرة إذا زنت ، ودلت الأخبار عليه ، وعلى التسوية بين الحرة والآمة في هذا المعنى .
فإذا ثبت ذلك فإن قال قائل : فما فائدة ذكر الإحصان بمعنى الإسلام والنكاح ولا أثر لهما ؟ قيل : أما الإسلام ، فإنما ذكر على أحد المعنيين ، لأنهن كن يحسبن البغاء مباحاً ، واتخاذ الخدن مباحاً ، وإذا جرى ذلك على اعتقاد الإباحة فلا حد .
وقوله : إذا أسلمن ، يعني أن بالإسلام كن يعرفن تحريم ذلك ، وقبل الإسلام ما كن يعرفن ذلك .
الوجه الآخر ؛ إن حمل قوله " أحصن " على النكاح ، فإنما ذكر النكاح حتى لا يتوهم أنه يريد عقوبتها بالنكاح ؛ كما أراد في حق الحرة إذا تزوجت ؛ فأبان الله تعالى أنها وإن تزوجت وهي مسلمة ، فعليها مثل ما كان من قبل ؛ ثم ذكر الله تعالى الإحصان في حق الإماء وقال : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ } ، ولم يرد به الرجم ، إذا لا نصف له ؛ فإذا لم يرد الرجم ، فلا يمكن أن يكون الإحصان في الحرة بمعنى النكاح ؛ لأن الحرة إذا أحصنت بالنكاح فعليها الرجم ؛ فيكون المراد بالمحصنة هاهنا الحرة{[887]} ؛ فالإحصان في حق الأمة بمعنى النكاح ؛ وفي حق الحرة بمعنى الحرية ، فاختلف معنى الإحصان باختلاف محاله .
إذا ثبت ذلك فالله تعالى يقول : { فَإذَا أُحْصِنَ } الآية ، ذكر حكم الأمة والحرة ، وفهمت الأمة منه أن العبد والحر مثلهما في معناهما ، كما قال : { إنَّ الّذيِنَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاَتِ المُؤْمِنَاتِ{[888]} } ، والأحرار المؤمنون الغافلون كمثلهن ، لأن المعنى في الكل واحد ، وهذا من أجلى مراتب الأقيسة . والشافعي رضي الله عنه أورد هذا المثال في باب القياس ، عند ذكر مراتب الأقيسة ، ومثله قوله عليه السلام : " من أعتق شركاً له عبد عليه الباقي{[889]} " .
وبالجملة : إذا ظهر مقصود الشرع في المسكوت عنه والمنطوق به ، استوى الكل في الاعتبار .
قوله تعالى : { فانْكِحُوهُنَّ بِإذنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } : يدل على جواز عطف الواجب على الندب ، لأن النكاح ندب وإيتاء المهر واجب ، وقال تعالى : { فانْكِحُوا ما طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاءِ } ، ثم قال : { وآتُوا النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } ، ويصح عطف الندب على الواجب أيضاً ، كقوله تعالى : { إنَّ الله َ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإحْسَانِ{[890]} } ، فالعدل واجب والإحسان ندب ، وقال الشافعي رضي الله عنه في قوله : { فَكاتِبوُهُم إنْ عَلِمْتُم فِيهِمْ خَيْراً وآتُوهُم }{[891]} الكتابة ندب والإيتاء واجب ، وقال أبو حنيفة في قوله تعالى : { وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمّرَةَ{[892]} للهِ } : الحج واجب والعمرة ندب ، إلى غيره من الأمثلة .
قوله تعالى : { ذلك لمن خشي العنت منكم{[893]} } : بينا معناه ، وأنه حرم ذلك لئلا يكون إرقاقاً للولد ، وهذا يصلح أن يفهم منه معنى التحريم ، فيفهم مثل هذا الحكم في مثل هذا المحل ، فمقتضاه أن لا يحرم على العبد ولا ينقطع الدوام ، وهو نظر دقيق بينا وجهه من قبل ، فإذا أراد أبو حنيفة حمله على معنى الاستحباب ، كان متحكماً ، ونحن متعلقون بالأصل والظاهر .