قوله تعالى : { ولا تَنْكَحوا ما نَكَحَ آباؤكُم مِنَ النِّساءِ إلاّ ما قَد سَلَفَ } الآية [ 22 ] : اعلم أن النكاح في أصل اللغة الجمع والضم ، وهذا المعنى في الوطء أظهر ، غير أنه في عرف الشرع للعقد ، حتى إذا قال لامرأة أجنبية : إن نكحتك فعبدي حر وامرأتي طالق ، تعلق الحنث بالعقد لا بالوطء دون العقد ، ولا يجوز عند كثير من الأصوليين ، ان يكون اللفظ محمولاً على الحقيقة وعلى المجاز جميعاً ، فيراد المعنيان .
فإذا ثبت ذلك ، فالتي عقد الأب عليها ، مراد الآية إجماعاً ، ودل عليه نظيره : { وحَلائِلُ أبنائكُم الذينَ مِنْ أصْلابِكُم } الآية [ 23 ] .
وسيقت الآيات بعدها لتحريم العقد ، وقال : { ولا تَنْكِحوا ما نَكَحَ آباؤكُم } :
ولا يجوز أن يريد به الوطء دون النكاح ، فإن ذلك محرم لا بهذه العلة ، بل الزنا محرم على الإطلاق ، وإنما يكون قد حرم ما كان تحريمه لأجل نكاح الأب ، وهو عقد نكاح الابن ، وهذا لا يشك فيه عاقل . ودل على ذلك أيضاً قوله : { ورَبائِبُكُم اللاّتي في حُجورِكُم مِن نِسائكُم اللاّتي دخَلْتم بهِنَّ } الآية [ 23 ] : معناه : دخلتم بهن من نسائكم ، ولا يكون ذلك إلا في النكاح{[789]} .
وليس يخفى على عاقل ، أن تحريم منكوحة الأب على الابن ، ليس للتغليظ على الابن بحرام صدر من الأب ، بل هو لتعظيم الأب في منكوحة بمثابة أم لابنه ، وامرأة ابنه بمثابة بنت له ، فإذا كان ذلك بطريق الكرامة والمحرمية ، فلا يقتضي الزنا المجرد ذلك .
وذكر الرازي أن الله تعالى غلظ أمر الزنا بإيجاب الرجم تارة ، وبإيجاب الجلد أخرى ، فمن التغليظ إيجاب التحريم ، وذكر هذا المعنى في شرح معنى هذه الآية ، وذلك غلط فاحش منه ، فإنه لا يتوهم التغليظ على الابن في زنا الأب ، مع أن المزنية غير محرمة على الزاني ، فهذا تمام هذا المعنى{[790]} .
ثم إن الرازي قال : زعم الشافعي أن الله تعالى لما أوجب الكفارة على قاتل الخطأ ، كان قاتل العمد أولى بذلك ، إن كان حكم العمد أعظم من حكم الخطأ ، ألا ترى أن الوطء لا يختلف حكمه أن يكون بزنا أو بغير الزنا ، فيما يتعلق به من فساد الحج والصوم ؟ فكذلك ما نحن فيه .
وهذا الذي ذكره غاية الجهل ، فإن الشافعي لما{[791]} قال ذلك في حكم الكفارة التي محلها القتل ، الذي هو محظور غير مستحق ، ولذلك لا تجب في القتل المباح ، وأما المحرمية فإنها كرامة ونعمة ، وتعلقت في الأصل بالنكاح الصحيح ، قال{[792]} الشافعي : الكفارة في الأصل وجبت لمعنى كرامة في الآدمي ، وثبتت في النكاح ، وأثبتت في حق الابن بسبب نكاح الأب ، إنما أثبتت لمعنى ، كان الزنا أولى بذلك المعنى .
فالذي ذكره يدل على أنه لم يفهم معنى كلام الشافعي رضي الله عنه ، ولم يميز بين محل ومحل ، ولكل مقام مقال ، ولتفهم معاني كتاب الله رجال ، وليس هو منهم ، وعلى هذا فساد العبادات ، فإن فسادها للجنايات على العبادة ، والزنا في هذا المعنى مثل الوطء بالنكاح .
وقد اعترف بعض من ادعى الإنصاف منه ، أن المحرمية لا تثبت بطريقة التغليظ ، فإن هذا النمط من الكلام باطل ، فتكلف في الزنا جهة رأى أنه يقتضي الكرامة من تلك الجهة ، وتلك الجهة باطلة قطعاً ولسنا لنذكرها .
وذكر الشافعي مناظرة بينه وبين مسترشد طلب الحق منه في هذه المسألة ، فأوردها الرازي متعجباً منها ومنبهاً على ضعف كلام الشافعي فيها ، ولا شيء أدل على جهل الرازي ، وقلة معرفته بمعاني الكلام من سياقته لهذه المناظرة ، واعتراضاته عليها ، ونحن نبين كلام الشافعي رضي الله عنه : اعلم أن كلام الشافعي دل أولاً ، على أن الله تعالى ما أثبت المحرمية في زوجة الأب كان الوطء أو لم يكن في حق الابن إلا كرامة ونعمة ، ولا يتهيأ لعاقل أن يقول إن الشرع يجعل زوجة الإنسان محرماً لابنه حتى يجوز له أن يخلو بها ، ويسافر معها ، ويراها بمثابة أمه من الرضاعة والنسب بطريق العقوبة ، وإذا تقرر ذلك قال الشافعي رضي الله عنه : فقال لي قائل : لم قلت : إن الحرام لا يحرم الحلال ؟ قلت : قال الله تعالى : { ولا تَنْكَحوا ما نَكَحَ آباؤكُم مِنَ النِّساءِ } ، وقال : { وأمّهاتُ نِسائِكُم } إلى قوله { دخَلتُم بهِنَّ{[793]} } ، أفلست تجد التنزيل إنما يحرم من سمى بالنكاح أو الدخول في النكاح ؟ قال : بلى . قلت : أفيجوز أن يكون الله تعالى حرم بالحلال شيئاً ، وحرمه بالحرام ، والحرام ضد الحلال ؟ والنكاح مندوب إليه مأمور به ، وحرم الزنا فقال : { وَلا تَقْرَبوا الزِّنا إنّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبيلا{[794]} } .
فهذا تمهيد الدلالة من إمامنا الشافعي رضي الله عنه ، وأشار بها إلى أن الشارع حرم زوجة الأب من غير دخول مثلاً على الابن ، وإذا ثبت ذلك ، فإذا أردنا فهم المعنى منه لنلحق به ما سواه ، لم يكن فهم معنى التغليظ ، وإنما يفهم منه معنى الكرامة ، والكرامة إنما تليق بسبب مباح أو مندوب إليه ، فلا يتصور فهم معنى الكرامة في إثبات المحرمية ، وحليلة الأب والابن وأم المرأة ، ثم يقاس عليه الزنا الذي لا يليق به الكرامة ، فإنهما ضدان ، فلا يتعرف من أحدهما ضد مقتضاه في الآخر بطريق الاعتبار والقياس ، وهذا في نظر أهل الأصول والتحقيق من الضروريات ، قال هذا الجاهل - أعني الرازي : -
تلا الشافعي آيتين ، وليس فيهما أن{[795]} التحريم لا يقع بغيرهما ، كما لا ينفي الحلال إيجاب التحريم بالوطء ، بملك اليمين وبسط القول فيه ومعناه هذا ، ولم يعلم هذا الجاهل معنى كلام الشافعي رضي الله عنه ، فاعترض عليه بما قاله ، وعجب الناس من ذلك وقال : في هذه المناظرة أعجوبة لمن تأمل ، فكان كما قال القائل :
وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم
ويعلم الله تعالى ، أن الذي حمله لا يلتبس على من شذا{[796]} من التحقيق طرفاً ، غير أن فرط التعصب يعمي عين البصيرة بالمرة ، وظن الجاهل أن الشافعي رضي الله عنه ، رأى القياس ممتنعاً في الضدين مطلقاً ، وأنه لم ير قياس الشيء على خلافه ، وقال : المتضادان قد يجتمعان في وجوه ، وكفاه جهلاً وخزياً أنه لم يفهم هذا الكلام الذي ذكره الشافعي على وضوحه .
ثم كلام الشافعي ، قال له : أجد جماعاً وجماعاً ، فلعل السائل ظن أن هذا الكلام الحكيم معلق على صورة الجماع ، مثل الغسل وفساد العبادات ، فقال الشافعي : هذا جماع لو فعلت حمدت عليه ، وذلك لو فعلت رجمت به ، فرده إلى المعنى الأول .
أي إن العاقل لا يفهم من تحريم زوجة الأب بنفس العقد على تقدير أنها كرامة ، ولا من تحريم حليلة الابن مذكوراً بلفظ الحليلة مثل تلك الكرامة ، فيما هو محظور محض ، سماه الله تعالى مقتاً وفاحشة ، وقال : { وَساءَ سَبيلاً } . وقال له السائل : هل توضحه بأكثر من هذا ؟ قال : نعم ، أفنجعل الحلال الذي هو نعمة ، قياساً على الحرام الذي هو نقمة ؟
والعجب أن الرازي ذكر هذا وقال : هذا تكرار المعنى الأول ، ولم يفهم مقصوده مع هذا الإيضاح ، ثم ألزم وطء الحائض ، والوطء في النكاح الفاسد ، والجارية المجوسية ، وأن الوطء في هذه المواضع بمنزلة نفس النكاح ، مع أن ذلك مزجور{[797]} عنه محرم ، وهذا لا يخفي وجه الجواب عنه ، لما تشتمل عليه هذه الوطئات من معنى الحرمة واقتضائها{[798]} للكرامة في أمر النسب والعدة .
وتمام الجواب عنه مذكور في مسائل الخلاف ، غير أن مقصودنا الآن فهم معنى الآية التي سيقت لبيان مجرد العقد في حق الابن ، وصار العقد المجرد مراداً به بالإجماع ، كيف يمكن أن يفهم منه الزنا ؟
ثم حكى زيادة على ما قلناه للشافعي رضي الله عنه ، ووجد في كتبه ، استشهادات من المسائل بعيدة ، وجواب الشافعي عنها ، وكذب الجاهل في تلك الزيادات .
والمنقول عن الشافعي رضي الله عنه في كتبه ، هذا الذي ذكرناه من القواطع الأصولية ، التي يتلقاها العقل والشرع بالقبول والاتباع .
والعجب أنه كما لم يفهم كلام الشافعي ، لم يفهم كلام السائل أيضاً ، حيث قال : " أجد جماعاً وجماعاً " .
قال : السائل قصد بذلك أن يتبين أن المعنى إذا لم يتضح فاسد وجه فيه الشبه{[799]} ، فقال : " أجد جماعاً وجماعاً " والشافعي أبان الفرق بينهما بالمعنى الذي ذكره ، فلا هو اهتدى إلى وجه الشبه ، ولا إلى وجه الحجة .
وإنما كان الذي ناظره محمد بن الحسن{[800]} .
ثم قال هذا الجاهل بفرط جهله : وسرور الشافعي بمناظرة مثله ، يدل على أنهما كانا كالمتقاربين في المناظرة ، وإلا فلو كان عنده في معنى المبتدي والغبي العامي ، لما أثبت مناظرته إياه في كتابه ، ولو كلم به المبتدئون من أصحابنا لما خفي عليهم عوار هذه الحجاج ، وضعف السائل والمسئول فيه{[801]} .
هذا لفظ الرازي نقلته على وجهه من كتابه الذي سماه أحكام القرآن{[802]} .
والذي ذكره من الوقيعة في إمامنا الشافعي رضي الله عنه ، يكفيه في الجواب عنه جهله بقدر الشافعي أولاً ، وجهله بكلامه الذي حكيناه وشرحناه ، ولله يوم يخسر فيه المبطلون .
ولو أن المحققين يعلمون أن في إيضاحنا لجهله بمعنى كلام الشافعي أتم انتصار منه ، لتجاوزنا ذلك إلى ما سواه .
ومما ذكره الشافعي رضي الله عنه أن قال : كيف يتهيأ لعاقل أن يفهم من قوله تعالى : { وَلا تَنْكحوا ما نَكَحَ آباؤكُم مِنَ النِّساءِ } أن من قبل امرأة بشهوة ، حرم على ابنه التزوج بها تلقياً من قوله : { ولا تَنْكِحوا مَا نَكَحَ آباؤكُم } .
أترى ذلك من قبيل ما يسمى نكاحاً على تقدير عرف الشرع ، أو عرف اللغة وموجبها ؟ ولو نظر إلى فرجها فكذلك ، ولو نظر إلى سائر بدنها فلا ، ولو نظرت إلى فرج رجل ، حرم على ابنه أن ينكحها تلقياً من قوله : { ولا تنْكِحوا ما نَكَحَ آباؤكُم } ، أو تلقياً من قوله : { وأمّهاتُ نِسائِكُم } أو من قوله : { وحلائِلُ أبناؤكُم } ، أليس ترك هذا القول خيراً من نصرته مع ما فيه من المخازي ؟
وظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه ، أن اللمس بشهوة في ملك اليمين وفي النكاح ، لا يوجب تحريم ما يتعلق تحريمه بالوطء .
قوله : { إلاَّ ما قَد سَلَفَ } : فيه نظر ، فإنه قال : { ولا تنْكحوا } ثم قال : { إلاَّ ما قَد سَلَفَ } . وظاهر ذلك أن الذي سلف كان نكاحاً ، إلا أن قوله : { إنّه كانَ فاحِشةً ومَقْتاً وساءَ سَبيلاً } يرده فمعنى قوله { إلاَّ ما قَد سَلَفَ } ، أي إلا ما قد سلف فإنكم غير مؤاخذين به .
فعلى هذا قوله : { إلاَّ ما قَد سَلَفَ } ، استثناء منقطع كقولهم : لا تلق إلا ما لقيت ، يعني لكن ما لقيت فلا لوم عليك فيه .
وقوله تعالى : { إنّه كانَ فاحِشةً{[803]} } : يعني بعد النهي ، وإلا فقبل النهي ليس بفاحشة ، لا قبل المبعث ولا بعده ، فعلى هذا قوله : { إلاَّ ما قد سَلَفَ } ، يعني فإنه يسلم منه بتركه والتوبة منه .
نعم ، في هذه الآية دلالة ظاهرة للشافعي رضي الله عنه ، في أن من تزوج امرأة ابنه ، ثم وطئها مع العلم بالنهي والتحريم إنه زانٍ ، لأنه تعالى قال : { إنّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقتاً وساءَ سَبيلاً } ، كما قال : { ولا تَقْرَبوا الزِّنا إنّه كان فاحِشةً وساءَ سبيلاً } ، فذكر في نكاح امرأة الأب مثل ذلك .
فإن قيل : إنه إذا كان عندكم النكاح بمعنى العقد ، والعقد لم ينعقد ، فليس ثم زنا ، فما معنى قوله : { فاحِشةً وَمقْتاً وساءَ سَبيلاً } والفاحشة عندكم ترجع إلى العقد ، وليس في ذلك ما يوجب الحد ؟ وهذا سؤال القوم .
والجواب عنه : أنه لما جعل العقد فاحشة ، لم يكن فاحشة لعينه ، وإنما كان فاحشة لحكمه ومقصوده ، فلولا أن مقصوده أعظم وجوه الفواحش ، وليس فيه شبهة ، ما جعل الذريعة إليه فاحشة ومقتاً ، وهذا في غاية الوضوح فاعلمه .