قوله تعالى : { والهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ } ، الآية :[ 25 ] : ولو كان بلغ الحرم وذبح فيه لم يكن ممنوعاً عن بلوغ الحرم ، ثم لما وقع الصلح زال المنع ، فبلغ محله في الحرم ، وذلك أنه إذا حصل المنع في أدنى وقت ، فجائز أن يقال قد منع كما قال تعالى : { يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنّا الكَيْلُ{[1628]} } .
وإنما منع في وقت وأطلق في وقت آخر . . فالأول احتجاج أصحاب الشافعي ، والثاني تأويل أصحاب أبي حنيفة ، والأول أظهر ، فإنه لو ذبح في الحرم لم يطلق على الشيء الواحد أنه منع عن بلوغه محله ، وقد وصل محله ، وليس كما احتجوا به في الآية ، فإن الكيل منع في وقت وقيل : { إنْ لَمْ تَأْتُوني بِهِ فَلاَ كَيْلَ لكم }{[1629]} مطلقاً ، وإن أحضرتموه فلكم الكيل ، وهاهنا بخلافه ، فإن الهدي بعد الصلح إن بلغ محله لم يجز أن يقال إنه بعينه منع عن محله ، وهذا ظاهر بين{[1630]} .
وأصحاب أبي حنيفة يحتجون بقوله : { يَبْلُغ مَحِلّهُ } ، وذلك يدل على أن المحل هو الحرم . . وقال : { ولاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُم حَتّى يَبلُغَ الهَدْيُ مَحِلّه }{[1631]} وهو الحرم .
قوله تعالى : { لَوْ تَزَيّلُوا لَعَذَّبْنَا الّذِينَ كَفَرُوا منْهُم عَذَاباً أَلِيماً } ، الآية :[ 25 ] :
فيه دلالة على ما قاله الشافعي ومالك ، إنه لا يحرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى المسلمين ، ولو تزيل المؤمنون لعذب الكفار . . وكذلك في إحراق الحصون إذا كان فيه أسارى المسلمين{[1632]} .
وأبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري جوزوا رمي حصون الكافرين ، وإن اشتملت على الأسارى والأطفال من المسلمين ، وزادوا فقالوا : لو تترس الكفار بأطفال المسلمين رمى المشركون ، وإن أصابوا أحداً من المسلمين في ذلك فلا دية ولا كفارة{[1633]} . . وقال الثوري : فيه الكفارة ولا دية فيه .
نعم ، لا يمنع نصب المجانق على الحصون مع اشتمالها على أطفال المشركين مع أنه لا عصمة للأطفال تحقيقاً للحكم بكفرهم ، ولأطفال المسلمين عصمة وحرمة .
ويحتج الشافعي أيضاً بقوله تعالى : { ولَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ ونِسَاءٌ مُؤمِنَاتٌ } ، الآية :[ 25 ] وفيه دلالة على منع رمي الكفار لأجل من فيهم من المسلمين{[1634]} ، وتمام الاحتجاج بقوله تعالى : { لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطُئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِنْهُم مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، الآية :[ 25 ] ، فلولا الحظر ما أصابتهم معرة من قتلهم بإصابتهم إياهم .