قوله تعالى : { والّذِينَ يَكنِزُونَ الذّّهَبَ والفِضَّةَ } ، الآية :[ 34 ] :
ذكر الأصم : أنه راجع إلى أهل الكتاب ، لأنه مذكور بعد قوله : { إنَّ كَثِيراً مِنَ الأحبَارِ والرُّهبَان لَيَأْكُلُونَ أَموَالَ النّاسِ بِالبَاطِلِ } ، وغيره حمل ذلك على كل كافر ، وذلك مدلول اللفظ ، ومعطوف على المتقدم باللفظ العام ، لأنه وصف لما تقدم ، ولأنه مستقل ، وإن لم يتعلق بما تقدم .
وقد روي عن أبي ذر رضي الله عنه أن قائلاً قال له وهو بالربذة : ما أنزلك هذا المنزل ؟ فقال : كنا بالشام فقرأت هذه الآية ، فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب لا فينا ، فقلت : لا ، بل فينا وفيهم .
وكتب معاوية إلى عثمان أن أبا ذر يطعن فينا ويقول كذا ، فكتب إليّ عثمان بالإقبال إليه ، فأقبلت ، فلما قدمت المدينة ، كثُرَ علي الناس حتى كأنهم لم يروني فآذوني ، فشكوت إلى عثمان فقال : تنح قريباً ، فتنحيت إلى منزلي هذا .
وأكثر العلماء على أن الوعيد على الكنز على من يمنع حق الله تعالى فيه ، فما لم يؤد حق الله تعالى منه ، فهو كنز كان على وجه الأرض أو تحته .
وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه إلا جيء يوم القيامة فيحمى ويكوى به جنبه وجبينه{[1416]} " ، وقال : " من له مال فأدى زكاته فقد سلم " .
ولا خلاف في جواز دفن المال المزكى أو غير المزكى إذا أدى زكاته من موضع آخر .
وقد روي عن بعض السلف ، أن المراد بالآية العدول عن الإكثار وجمع المال ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يجيء كنز أحدكم شجاع أقرع فإذا رأى صاحبه هرب منه فيطلبه فيقول : أنا كنزك{[1417]} " .
وعلى الجملة ، المعقول من الآية تعليق الوعيد على من كنز ولم ينفق في سبيل الله ، ولم يتعرض للواجب وغيره ، غير أن صفة الكنز لا ينبغي أن تكون معتبرة ، فإن من لم يكنز ومنع الإنفاق في سبيل الله ، فلا بد أن يكون كذلك ، فلا أثر لصفة الكنز ، وليس في الآية بيان الواجب من غيره ، ولكن من المعقول أن صورة الكنز كما لا تعتبر ، فالامتناع من أداء ما ليس بواجب لا يعتبر أيضاً ، وإذا لم يعتبر هذا ولا ذاك جملة ، فليس إلا أن المراد منع الواجب من الزكاة وغيره ، إلا أن الذي يخبأ تحت الأرض هو الذي يمنع إنفاقه في الواجبات عرفاً ، فلذلك خص الوعيد به .
وإذا كان المقصود من ذكر الكنز أن صاحبه يمسكه ولا ينفق منه في سبيل الله تعالى ، فظن قوم أن من صاغ الدراهم حلياً ولا يزكي منه فهو كانز .
وهذا استدلال بطريق المعنى ، وإلا فاللفظ من حيث الظاهر لا يدل عليه أصلاً . ويحتمل أيضاً من وجه آخر ، وهو أن هذه الآية إنما نزلت في وقت شدة الحاجة وضعف المهاجرين ، وقصور يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن كفايتهم ، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم ، وكانت السنون والحوائج هاجمة عليهم ، فنهوا عن إمساك شيء من المال زائد على قدر الحاجة ، ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت ، وإلا فقد ثبت بالنقل المستفيض عن النبي عليه الصلاة والسلام إيجابه في مائتي درهم ، خمسة دراهم ، وفي عشرين دينار ، نصف دينار ، ولم يوجب الكل ، واعتبر مدة الاستنماء ، وكان في الصحابة ذوو ثروة ونعمة وأموال جمة ، مثل عثمان وعبد الرحمن بن عوف . أو يحتمل أن قوله : { ولا ينفقونها } أي لا ينفقون منها تحذف من ، وبينه في مواضع أخر من قوله تعالى : { خُذْ أَمَوالِهِم صَدَقَةً{[1418]} } .
وعن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { والّذِينَ يَكنِزُونَ الذهَبَ والفضَّةَ } ، فكبر ذلك على المسلمين ، فقال عمر : أنا أفرج عنكم ، فانطلق فقال : يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إن الله تعالى لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي{[1419]} من أموالكم ، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم " ، فكبر عمر . فأبان بهذا الحديث أن المراد به إنفاق بعض المال لا جميعه ، وأن قوله { الّذِينَ يَكنِزُونَ } المراد به منع الزكاة{[1420]} .
وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه إلاّ جيء به يوم القيامة وبكنزه فيكوى به جنبه وجبينه حتى يحكم الله تعالى بين عباده " . فأخبر في هذا الحديث ، أن الحق الواجب في الكنز هو الزكاة دون غيرهما ، إلى قوله تعالى : { فَتُكوَى بِهَا جِبَاهُهُم وَجُنُوبُهُم وَظُهُورُهُم هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُم{[1421]} } ، يعني أنه لم يؤدوا زكاته .
وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الذي لا يؤدي زكاته يمثل له ماله يوم القيامة شجاع أقرع له زبيبتان تلزمه أو يطوقه ، فيقول أنا كنزك أنا كنزك " ، فأخبر أن المال الذي لا يزكى هو الكنز ، فبان به أن الكنز اسم لما لا يؤدى زكاته في عرف الشرع ، والوعيد انصرف إليه ، فاعلمه .