قوله تعالى : { إنّمَا الصَّدَقَاتُ لِلفُقَرَاءِ والمَسَاكِين } ، الآية :[ 60 ] :
ظاهر الآية أن المسكين غير الفقير ، وقال قوم : هما واحد ، إلا أنه ذكرهما باسمين لتأكيد الأمر فيه ، وليس ذلك بصحيح .
وإذا ثبت ذلك ، فللشافعي وأبي حنيفة اختلاف في اللفظ في أيهما أعظم حاجة وأشد خصاصة ، وليس يتعلق به كبير فائدة شرعية ، وليس ببين أن يجعل المسكين صنفاً والفقير صنفاً ، فيقال : يعطي الصنفان وهما فقيران إلا أن أحد الصنفين أشد فقراً من الآخر ، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما واحداً .
ومطلق لفظ الفقر لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة ، ولكن تظاهرت الأخبار في أن الصدقة تؤخذ من أغنياء المسلمين ، وترد في فقرائهم .
والذي يمكن أن يفهم من الآية ، ومن السنة ، أن الله تعالى أطلق الصدقات ، وبين الرسول عليه الصلاة والسلام أصناف الصدقات ، وما تجب فيه الزكاة ، وما لا تجب ، والذي لا تجب قد تجب فيه إذا اتجر .
وقد حكي عن زين العابدين أنه قال : إنه تعالى علم قدر ما يرتفع من الزكاة ، وأنه بما تقع به الكفاية لهذه الأصناف فأوجبه لهم ، وجعله حقاً لجميعهم ، فمن منعهم ذلك فهو الظالم لهم رزقهم .
ولذلك قال قوم من العلماء : إن الزكاة تصير شركة للفقراء ، وهو قول الشافعي ، وظاهر الآية يقتضي ذلك ، لأن قوله : إنما الصدقات للفقراء كالتمليك وإنما لم يجعل تمليكاً حقيقة من حيث جعل لوصف لا لعين ، وكل حق جعل لموصوف ، فإنه لا يملكه إلا بالتسليم ، إلا أن ذلك لا يمنع استحقاق الأصناف لأنواع الصدقات ، حتى لا يحرم صنف منهم .
واختلف العلماء في استيعاب هذه الأصناف : فمنهم من قال الفرض به بيان المصارف حتى لا يخرج عنهم ، ثم الاختيار إلى من يقسم ، وهو قول عمر وابن عباس وحذيفة وخلق من التابعين ، كالحسن وإبراهيم وغيرهما ، حتى ادعى مالك الإجماع في ذلك .
وقال الشافعي وبعض أهل الظاهر : يتعين استيعاب الجميع إلا إذا عدم بعضهم ، فيصرف نصيبه إلى الباقين{[1428]} . فمن هذا الوجه ، فارق إضافة الأموال إلى مستحقيها ، وفارق الوصية إلى أقوام ، فإنه إذا تعذر الوصول إلى بعض من أوصى له لا يصرف نصيبه إلى الباقين .
ورأى الشافعي أن استيعاب جهات الحاجات ، يجوز أن يكون أعظم في القربة ، ولا يجوز رفع المزية بلا دليل مع موافقة الظاهر له ، وإذا تعذر البعض ، فالأقرب إلى القربة الصرف إلى الباقين .
فعلى هذا لا نقول : إن الصرف على الأصناف على نحو صرف الوصاية إلى الأصناف والأشخاص ، وأن الإضافة إليهم بلام التمليك ، ولكنا ندعي أن استيعاب جهات الحاجات في القربة أو في الصرف إلى واحد .
وإذا ثبت زيادة القربة في المنصوص عليه لم يجز إلغاؤه ، وهذا بين .
وقد شنع علي بن موسى القمي على الشافعي بأن قال : إذا كان قدر الواجب نصف دينار ، وكان هو القاسم لذلك ، ووجد السهمان كيف يفرق ذلك فيهم ، ولا يسد مسداً ، فإنه ينقسم نصف دينار على ثمانية أصناف ، ويصرف من كل صنف إلى ثلاثة ، فيحتاج أن يقسمه على أربعة وعشرين سهماً ، وأحد السهام المكاتبون ، والمقصود إزالة الرق ، وأي أثر لهذا القدر في إزالة الرق .
والذي ذكره جهالة تلزم عليه ، إذا أوصى الموصي بها للأصناف ، ولأنه ليس الأمر مقصوراً عليه وحده ، بل إذا كان بينه وبين غيره حصل الاستيعاب ، حصل مقصود الأصناف منه ومن غيره ، فلا معنى لهذا التشنيع .
ولا خلاف أن لا يجوز صرف الجميع إلى العاملين عليها ، فإنه إنما يأخذ أجرته ، فلو وضع فيه تناقض ، فإنه يسعى للفقير ، فكيف يأخذ الكل إلى نفسه ، فهذا آخر فصول هذه الآية .
الفصل الآخر في الفقراء والمساكين ، وقد ذكرهما الله تعالى باسمين ، فقال بعضهم : ذكرهما باسمين ليؤكد أمرهم في هذه الصدقات بأشد من تأكيد غيرهم . ومنهم من قال : ذكرهما باسمين لكونهما صنفين ، وهذا ما قدمناه .
ثم اختلفوا في معنى الفقير : فمنهم من قال إنه المتعفف الساتر فقره عن الناس ، وقد وصفه الله تعالى بذلك في قوله : { لِلفُقَراءِ الّّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللهِ } . . . إلى قوله : { يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التّعَففِ{[1429]} } ،
والمسكين الذي يسأل إذا احتاج ، ويمسك إذا استغنى ، ويتخاضع للمسألة ، وذلك هو اختيار الأصم . ومنهم من قال : الفقير هو الضعيف الذي لا يسأل ، والمسكين الذي يسأل ، ورووه عن ابن عباس ، وهو قريب مما قدمناه . وقد قيل : الفقير هو الزمِن الذي لا يقدر على التكسب ، والمسكين الصحيح . وقد قيل : الفقير أشد حاجة ، فإنه مأخوذ من كسر فقار الظهر ، والمسكين دونه في الحاجة . وقد وصف الله تعالى ملاك السفينة ، بأنهم مساكين يعملون في البحر وأنه مأخوذ من السكون .
وبالجملة : الفقر في ظاهره أدل على الحاجة من المسكنة ، لأن المسكين إنما يدل على حاله على الحاجة من حيث المعنى ، وهو التخاضع الذي هو دليل الحاجة لا من حيث اللفظ ، والفقر عبارة عن الحاجة .
ومن جعلهما صنفاً واحداً ، قال لا فقير إلا ويحسن أن يسمى مسكيناً .
وللفقراء مراتب لا تنحصر في مرتين أو ثلاثة أو أربعة ، والذي يعددها ينظر إلى العطف ومعناه ، وذلك يقتضي الفرق بينهما ، فيقال : الفقير هو الشديد الحاجة مع التعفف ، والمسكين هو المظهر لحاجته بالمسألة .
ولعل من جعل الفقير هو الزمِن ، فلأن الزمانة تقعد عن الطلب ، ومن جعل المسكين الصحيح فلتمكينه من الطلب .
واعلم أن مطلق الفقير ليس فيه شرط وتقييد ، بل فيه دلالة جواز الصرف إلى ذوي القربى من بني هاشم وغيرهم ، ولكن السنة وردت باعتبار شروط ، منها أن يكون من بني هاشم ، وروي عن أبي يوسف{[1430]} جواز صرف صدقة الهاشمي إلى الهاشمي ، ومن شرائطه ألا يكون كسوباً مقدار كفايته ، فإنه عليه الصلاة والسلام قال : " لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي{[1431]} " . والظاهر يقتضي جواز ذلك ، لأنه فقير مع قوته وصحة بدنه ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه .
ومن شرائطه : أن يكون ممن لا تلزم المتصدق نفقته ، ولكن هذا الوجه يحرم الزكاة للفقر لا للغرم أو غيره من الصفات .
واختلفوا فيما به يخرج عن كونه فقيراً ، فقال قوم : بألا يملك نصاباً ،
وقال قوم : إنه لا يتحدد ذلك ، ويختلف باختلاف أحوال الناس ، فمنهم من يكثر وجوه حرجه ، فيعد فقيراً مع ملك نصب كثيرة ، وربما احتاج في يوم إلى نصاب ، فهذا يعد فقيراً ، وهو أقرب إلى الظاهر ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى .
واختلفوا في أنه هل يدفع له مقدار أم لا ؟ فقال بعضهم : لا يجوز أن يدفع إليه أكثر مما يصير به غنياً . وقال آخرون : يجوز ، وهو الأليق بالظاهر ، فإنه تعالى جوز وضع الصدقة في الفقير ولم يفصل .
واختلفوا في هل استحقاق الصدقات كلها بالفقير والحاجة فقط ، أو بذلك مع غيره : فمنهم من قال بالوجه الأول ، وزعم أن الله تعالى إنما ذكر الأصناف لاختلاف معنى الحاجة فيهم ، فأكد ذلك وبينه ، وإلا فالوجه الذي لأجله يجوز وضع الصدقة فيهم واحد ، على ما قاله عليه الصلاة والسلام ، وردها في فقرائهم ، فبين أن الاستحقاق بهذا الوجه الواحد ، وأما العاملون ، فإنهم يأخذون من جهة الفقراء لا من جهة رب المال ، إلا أنه لا يدفع إليهم إلا أُجرة سعيهم ، فهم كالوكلاء للفقراء ، ومنهم يأخذون هذا السهم . وكذلك الجواب عن المؤلفة ، حيث كانت ، لأنهم مع الغنى كانوا يأخذون لإعزاز الدين .
ومن قال بالقول الثاني قال : إن الغارم قد يأخذ مع الغنى ، وكذلك ابن السبيل ، وكذلك الغازي .
والأقرب إلى الظاهر هذا القول ، فإن الله تعالى ذكر هذه الأصناف ، فإن أراد المريد بالحاجة أنه لا بُد منها في جميعهم على بعض الوجوه فصحيح ، فإن العامل وإن كان غنياً ، ففي صرف أجرته إليه تقوية لأمر الصدقات ، فالحاجة إليهم ماسة ، وفي الصرف إلى المؤلفة قلوبهم تقوية الإسلام ، فالحاجة واقعة ، وكذلك الغارم بالديات ، تمس الحاجة إليه لتسكين الفايرة{[1432]} ، وتطفية الفتنة .
وقد استدل قوم في نصرة قول الشافعي ومذهب أبي حنيفة ، على أن ذكر العامل يدل على وجوب دفع الزكاة إليهم ، وأنه لا يجوز أن يفرق بنفسه ، وهذا فيه نظر ، لأن ذكرهم يتضمّنُ أنهم إذا كانوا أعطوا نصيبهم ، فأما إذا لم يكونوا فلا ، وليس في الظاهر أنه لا بد منهم ، كما أنه ليس في الظاهر أنه لا بد من رقاب وغارم ومؤلفة .
فأما المؤلفة ، فقد قيل كان ذلك وزال ، وقد قيل : للإمام أن يتألف قوماً إذا رأى في تأليفهم صلاحاً للمسلمين ، لما فيه من دفع ضررهم أو الضرر بمكانهم ، فله أن يدفع إليهم سهم المؤلفة قلوبهم ، فإن الله تعالى لم يخص وقتاً دون وقت .
وأما الرقاب ، فقد اختلف فيه ، فقال قائلون أراد به العتق ، وهو قول ابن عباس{[1433]} ، وكان لا يرى بأساً أن يعطي الرجل من زكاته في عتق رقبة ، وهو قول الحسن . وقال الأكثرون : المراد به المكاتبون ، وهو قول إبراهيم وسعيد بن جبير والشعبي وغيرهم ، وعلل سعيد بن جبير وقال : لا يعتق من الزكاة مخافة جر الولاء{[1434]} . وذكر علي بن موسى القمي أنهم أجمعوا على أن المكاتب مراد ، واختلفوا في عتق الرقاب ، وذكر هو وجوهاً بينة في منع ذلك ، منها : أن العتق إبطال ملك وليس بتمليك ، وما يدفعه إلى المكاتب تمليك ، ومن حق الصدقة ألا تجري إلا إذا جرى فيها التمليك ، وقوى ذلك بأنه لو دفع الزكاة عن الغارم في دينه من غير إذنه ، لم يجزه من حيث إنه لم يملك ، فلأن لا يجزى ذلك في العتق أولى .
وذكر أن في العتق جرّ الولاء إلى نفسه ، وذلك لا يحصل في دفعه إلى المكاتب ، وذكر أن ثمن العبد إذا دفعه إلى العبد لم يملك ، وإن دفعه إلى السيد فقد ملكه الغنى ، وإن دفعه بعد الشراء والعتق ، فهو قاضٍ ديناً ، وذلك لا يجوز في الزكاة .
وأما حق الغارمين ، فقد قيل هو المستدين من غير سرف ولا وفاء في ماله بدينه ، وروى قريب من ذلك عن ابن عمر وعائشة ، وروى علي بن موسى القمي بإسناده عن الحسن بن علي أنه قال : أن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : لذي فقر مدقع ، ولذي غرم مفظع ، ولذي دم{[1435]} موجع ، وعلى هذا إذا تحمل مما له فيها مصلحة للمسلمين ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم في حديث قبيصة بن مخارق أنه قال : تحملت حمالة فأتيته صلى الله عليه وسلم فسألته فقال : " يُؤديها عنك إذا جاءت نعم الصدقة " ، ثم قال : " أما علمت أن المسألة لا تحل إلا لثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو سداداً من عيش ، ورجل أصابته فاقه وحاجة حتى تكلم ثلاثة من ذوي الحجر من قومه ، فخلت له المسألة ، حتى يصيب سداداً من عيش أو قواماً من عيش ثم يمسك " ، فدل قوله من تحمل حمالة ، أن المسألة تحل له حتى يؤدي ثم يمسك ، على أنه غني ، لأنه لو كان فقيراً لم يلزمه أن يمسك ، بل كان يحل له أن يسأل لفقره .
وظاهر الغارم يتناول الغارمين كلهم .
وقوله : وفي سبيل الله : قد قيل ، إن المراد به الغازي وإن كان غنياً{[1436]} ،
وقيل : هذا يختص بالفقير ، ومنهم من يقول : إن كان مستغنياً بالفيء ولم يعط ، وإلا أعطى .
والظاهر أنه الغازي ، وأنه لا فرق بين أن يكون محتاجاً أو معه من الفيء ما يحرم أخذ الصدقة ، لأنه يحتاج لعدة جهاده وتقوية قلبه ، إلى ما لا يحتاج إليه غيره ، فصرف إليه جائز والحالة هذه ، وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله " ، وهذا موافق للظاهر ، " وفي رواية : لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله وابن السبيل " ، وابن السبيل يأخذ الزكاة مع غناه ، وقد قيل : هو مختص بمن يوجد مسافراً .
وقد قيل : يلحق به من يهم بسفر لا يضره تركه{[1437]} .