الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا من أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { يَغُضُّوا } ، يَعْنِي يَكُفُّوا عَنْ الِاسْتِرْسَالِ قَالَ الشَّاعِرُ :
فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّك من نُمَيْرٍ *** فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { يَغُضُّوا من أَبْصَارِهِمْ } ، َأَدْخَلَ حَرْفَ { مِنْ } الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّبْعِيضِ ، وَذَكَرَ { وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } مُطْلَقًا .
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ غَضَّ الْأَبْصَارِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْرِيمِ ؛ لِأَنَّ غَضَّهَا عَنْ الْحَلَالِ لَا يَلْزَمُ ؛ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ غَضُّهَا عَنْ الْحَرَامِ ؛ فَلِذَلِكَ أَدْخَلَ حَرْفَ التَّبْعِيضِ فِي غَضِّ الْأَبْصَارِ ، فَقَالَ : من أَبْصَارِهِمْ .
الثَّانِي : أَنَّ من نَظَرِ الْعَيْنِ مَا لَا يَحْرُمُ ، وَهُوَ النَّظْرَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ ، فَمَا زَادَ عَلَيْهَا مُحَرَّمٌ ، وَلَيْسَ من أَمْرِ الْفَرْجِ شَيْءٌ مَا يُحَلَّلُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ من النَّظَرِ مَا يَحْرُمُ ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَجَانِبِ ؛ وَمِنْهُ مَا يُحَلَّلُ ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجَاتِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ ، بِخِلَافِ الْفَرْجِ ، فَإِنَّ سَتْرَهُ وَاجِبٌ فِي الْمَلَأِ وَالْخَلْوَةِ ؛ لِحَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ ؛ قَالَ : ( قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ ؟ قَالَ : احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا من زَوْجِك ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك . فَقَالَ : الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ ؟ قَالَ : إنْ اسْتَطَعْت أَلَّا يَرَاهَا أَحَدٌ فَافْعَلْ . قُلْت : فَالرَّجُلُ يَكُونُ خَالِيًا ؟ قَالَ : اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ ) .
وَقَدْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالَهَا مَعَهُ فَقَالَتْ : مَا رَأَيْت ذَلِكَ مِنْهُ ، وَلَا رَأَى ذَلِكَ مِنِّي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } ، يَعْنِي بِهِ الْعِفَّةَ ، وَهُوَ اجْتِنَابُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا حِفْظُهَا عَنْ الْأَبْصَارِ ، حَتَّى لَا يَرَاهَا أَحَدٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وُجُوبُ سَتْرِهَا وَشَيْءٌ من أَحْكَامِهَا فِي الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ ، وَإِيضَاحُهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } : يُرِيدُ أَطْهَرُ عَلَى مَعَانِي الزَّكَاةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا غَضَّ بَصَرَهُ كَانَ أَطْهَرَ لَهُ من الذُّنُوبِ ، وَأَنْمَى لِأَعْمَالِهِ فِي الطَّاعَةِ ؛ وَلِذَلِكَ ( قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ : يَا عَلِيُّ ، إنَّ لَك كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ ، وَإِنَّك ذُو قَرْنَيْهَا ، فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ ؛ فَإِنَّ الْأُولَى لَك وَالثَّانِيَةَ لَيْسَتْ لَك ) . وَهُوَ أَيْضًا أَفْرَغُ لِبَالِهِ وَأَصْلَحُ لِأَحْوَالِهِ .
وَقَدْ أَنْشَدَ أَرْبَابُ الزُّهْدِ :
وَأَنْتَ إذَا أَرْسَلْت طَرْفَكَ رَائِدًا *** لِقَلْبِك يَوْمًا أَتْعَبَتْك الْمَنَاظِرُ
رَأَيْت الَّذِي لَا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ *** وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ
وَقَالُوا : مَنْ أَرْسَلَ طَرْفَهُ أَدْنَى حَتْفَهُ ، وَمَنْ غَضَّ الْبَصَرَ كَفَّهُ عَنْ التَّطَلُّعِ إلَى الْمُبَاحَاتِ من زِينَةِ الدُّنْيَا وَجَمَالِهَا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ وَأَبْقَى } يُرِيدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى . وَفِي الإسرائليات أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَائِمًا يُصَلِّي فَنَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ ، فَتَطَأْطَأَ إلَى الْأَرْضِ ، فَأَخَذَ عُودًا فَفَقَأَ بِهِ عَيْنَهُ الَّتِي نَظَرَ بِهَا إلَى الْمَرْأَةِ ، وَهِيَ من خَيْرِ عَيْنٍ تُحْشَرُ .
وَتَحْكِي الصُّوفِيَّةُ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَمْشِي عَلَى طَرِيقٍ ، فَاتَّبَعَهَا رَجُلٌ حَتَّى انْتَهَتْ إلَى بَابِ دَارِهَا ، فَالْتَفَتَتْ إلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ : يَا هَذَا ؛ مَا لَك تَتْبَعُنِي ؟ فَقَالَ لَهَا : أَعْجَبَتْنِي عَيْنَاكِ . فَقَالَتْ : الْبَثْ قَلِيلًا ، فَدَخَلَتْ دَارَهَا ، ثُمَّ فَقَأَتْ عَيْنَيْهَا فِي سُكُرُّجَةٍ ، وَأَخْرَجَتْهُمَا إلَيْهِ ، وَقَالَتْ لَهُ : خُذْ مَا أَعْجَبَك ، فَمَا كُنْت لِأَحْبِسَ عِنْدِي مَا يَفْتِنُ النَّاسَ مِنِّي .