الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } .
فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
ثَبَتَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : «جَاءَت امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إنَّ زَوْجِي لَطَمَ وَجْهِي . قَالَ : بَيْنَكُمَا الْقِصَاصُ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ } . قَالَ حَجَّاجُ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ : فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } » .
قَالَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ : سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقْرَؤُهَا : «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَقْضِيَ إلَيْكَ وَحْيَهُ » ، بِالنُّونِ وَنَصْبِ الْيَاءِ مِنْ " وَحْيَهُ " .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { قَوَّامُونَ } : يُقَالُ قَوَّامٌ وَقَيِّمٌ ، وَهُوَ فَعَّالٌ وَفَيْعَلٌ مِنْ قَامَ ، الْمَعْنَى هُوَ أَمِينٌ عَلَيْهَا يَتَوَلَّى أَمْرَهَا ، وَيُصْلِحُهَا فِي حَالِهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَلَيْهَا لَهُ الطَّاعَةُ وَهِيَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الزَّوْجَانِ مُشْتَرَكَانِ فِي الْحُقُوقِ ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } بِفَضْلِ الْقَوَّامِيَّةِ ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْذُلَ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ ، وَيُحْسِنَ الْعِشْرَةَ وَيَحْجُبَهَا ، وَيَأْمُرَهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ ، وَيُنْهِيَ إلَيْهَا شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ إذَا وَجَبَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَيْهَا الْحِفْظُ لِمَالِهِ ، وَالْإِحْسَانُ إلَى أَهْلِهِ ، وَالِالْتِزَامُ لِأَمْرِهِ فِي الْحَجَبَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَقَبُولِ قَوْلِهِ فِي الطَّاعَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } :
الْمَعْنَى إنِّي جَعَلْت الْقَوَّامِيَّةَ عَلَى الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ لِأَجْلِ تَفْضِيلِي لَهُ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ :
الْأَوَّلُ : كَمَالُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ . الثَّانِي : كَمَالُ الدِّينِ وَالطَّاعَةِ فِي الْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى الْعُمُومِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : «مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتٍ عَقْلٍ وَدِينٍ أَسْلَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْكُنَّ . قُلْنَ : وَمَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَلَيْسَ إحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ اللَّيَالِيَ لَا تُصَلِّي وَلَا تَصُومُ ؛ فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا . وَشَهَادَةُ إحْدَاكُنَّ عَلَى النِّصْفِ مِنْ شَهَادَةِ الرَّجُلِ ، فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا » . وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّقْصِ ، فَقَالَ : { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } .
الثَّالِثُ : بَذْلُهُ الْمَالَ مِنْ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا هَاهُنَا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ } ، يَعْنِي مُطِيعَاتٌ ، وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْقُنُوتِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ } ، يَعْنِي غَيْبَةَ زَوْجِهَا ، لَا تَأْتِي فِي مَغِيبِهِ بِمَا يَكْرَهُ أَنْ يَرَاهُ مِنْهَا فِي حُضُورِهِ ؛ وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ : «إنَّ شُرَيْحًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ . قَالَ : فَلَمَّا تَزَوَّجْتهَا نَدِمْت حَتَّى أَرَدْت أَنْ أُرْسِلَ إلَيْهَا بِطَلَاقِهَا . فَقُلْت : لَا أَعْجَلُ حَتَّى يُجَاءَ بِهَا . قَالَ : فَلَمَّا جِيءَ بِهَا تَشَهَّدَتْ ثُمَّ قَالَتْ : أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ نَزَلْنَا مَنْزِلًا لَا نَدْرِي مَتَى نَظْعَنُ مِنْهُ ، فَانْظُر الَّذِي تَكْرَهُ ، هَلْ تَكْرَهُ زِيَارَةَ الْأَخْتَانِ ؟ فَقُلْت : أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ ، لَا أَكْرَهُ الْمُرَافَقَةَ ، وَإِنِّي لَأَكْرَهُ مُلَالِ الْأَخْتَانِ قَالَ : فَمَا شَرَطْتُ شَيْئًا إلَّا وَفَتْ بِهِ قَالَ : فَأَقَامَتْ سَنَةً ثُمَّ جِئْت يَوْمًا وَمَعَهَا فِي الْحَجَلَةِ إنْسٌ ، فَقُلْت : إنَّا لِلَّهِ . فَقَالَتْ : أَبَا أُمَيَّةَ ، إنَّهَا أُمِّي ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا . فَقَالَتْ : اُنْظُرْ فَإِنْ رَابَكَ شَيْءٌ مِنْهَا فَأَوْجِعْ رَأْسَهَا . قَالَ : فَصَحِبَتْنِي ثُمَّ هَلَكَتْ قَبْلِي . قَالَ : فَوَدِدْت أَنِّي قَاسَمْتهَا عُمْرِي أَوْ مِتُّ أَنَا وَهِيَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ » .
وَقَالَ شُرَيْحٌ :
رَأَيْت رِجَالًا يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمْ *** فَشُلَّتْ يَمِينِي يَوْمَ أَضْرِبُ زَيْنَبَا
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } : يَعْنِي بِحِفْظِ اللَّهِ ، وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ لِلْعَبْدِ مِن الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا شَاءَ أَنْ يَحْفَظَ عَبْدَهُ لَمْ يَخْلُقْ لَهُ إلَّا قُدْرَةَ الطَّاعَةِ ، فَإِنْ تَوَالَتْ كَانَتْ لَهُ عِصْمَةٌ وَلَا تَكُونُ إلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } :
قِيلَ فِيهِ : تَظُنُّونَ ، وَقِيلَ تَتَيَقَّنُونَ ؛ وَلِكُلِّ وَجْهٍ مَعْنًى يَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَرْكِيبِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { نُشُوزَهُنَّ } ، يَعْنِي امْتِنَاعَهُنَّ مِنْكُمْ ؛ عَبَّرَ عَنْهُ بِالنُّشُوزِ ، وَهُوَ مِنْ النَّشَزِ : الْمُرْتَفَعُ مِنَ الْأَرْضِ ، وَإِنَّ كُلَّ مَا امْتَنَعَ عَلَيْكَ فَقَدْ نَشَزَ عَنْكَ حَتَّى مَاءُ الْبِئْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَة : قَوْله تَعَالَى : { فَعِظُوهُنَّ } ، وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِاَللَّهِ فِي التَّرْغِيبِ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ ثَوَابٍ ، وَالتَّخْوِيفِ لِمَا لَدَيْهِ مِنْ عِقَابٍ ، إلَى مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِمَّا يُعَرِّفُهَا بِهِ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي إجْمَالِ الْعِشْرَةِ ، وَالْوَفَاءِ بِذِمَامِ الصُّحْبَةِ ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِ الطَّاعَةِ لِلزَّوْجِ ، وَالِاعْتِرَافُ بِالدَّرَجَةِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهَا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : «لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ إلَى أَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا » .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } :
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : يُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ فِي فِرَاشِهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : لَا يُكَلِّمُهَا ، وَإِنْ وَطِئَهَا ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَأَبُو الضُّحَى .
الثَّالِثُ : لَا يَجْمَعُهَا وَإِيَّاهُ فِرَاشٌ وَلَا وَطْءٌ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الَّذِي يُرِيدُ ؛ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ . الرَّابِعُ : يُكَلِّمُهَا وَيُجَامِعُهَا ، وَلَكِنْ بِقَوْلٍ فِيهِ غِلَظٌ وَشِدَّةٌ إذَا قَالَ لَهَا تَعَالِي ؛ قَالَهُ سُفْيَانُ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : مَا ذَكَرَهُ مَنْ تَقَدَّمَ مُعْتَرَضٌ ، وَذَكَرَ ذَلِكَ ، وَاخْتَارَ أَنَّ مَعْنَاهُ يُرْبَطْنَ بِالْهِجَارِ وَهُوَ الْحَبْلُ فِي الْبُيُوتِ ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْمَضَاجِعِ ، إذْ لَيْسَ لِكَلِمَةِ { اُهْجُرُوهُنَّ } إلَّا أَحَدُ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ . فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْهَجْرِ الَّذِي هُوَ الْهَذَيَانُ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُدَاوَى بِذَلِكَ ، وَلَا مِنْ الْهَجْرِ الَّذِي هُوَ مُسْتَفْحَشٌ مِنْ الْقَوْلِ ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِهِ ؛ فَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ إلَّا أَنْ تَرْبِطُوهُنَّ بِالْهِجَارِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : يَا لَهَا هَفْوَةٌ مِنْ عَالِمٍ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، وَإِنِّي لَأَعْجَبَكُمْ مِنْ ذَلِكَ ؛ إنَّ الَّذِي أَجْرَأَهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يُصَرِّحَ بِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ ، هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ امْرَأَةَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ كَانَتْ تَخْرُجُ حَتَّى عُوتِبَ فِي ذَلِكَ . قَالَ : «وَعَتَبَ عَلَيْهَا وَعَلَى ضَرَّتِهَا ، فَعَقَدَ شَعْرَ وَاحِدَةٍ بِالْأُخْرَى ، وَضَرَبَهُمَا ضَرْبًا شَدِيدًا ، وَكَانَتِ الضَّرَّةُ أَحْسَنُ اتِّقَاءً ، وَكَانَتْ أَسْمَاءُ لَا تَتَّقِي ؛ فَكَانَ الضَّرْبُ بِهَا أَكْثَرَ وَآثَرَ ؛ فَشَكَتْهُ إلَى أَبِيهَا أَبِي بَكْرٍ ؛ فَقَالَ لَهَا : أَيْ بُنَيَّةَ اصْبِرِي ؛ فَإِنَّ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ صَالِحٌ ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ زَوْجَكِ فِي الْجَنَّةِ ، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ إذَا ابْتَكَرَ بِالْمَرْأَةِ تَزَوَّجَهَا فِي الْجَنَّةِ » . فَرَأَى الرَّبْطَ وَالْعَقْدَ مَعَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ مَعَ فِعْلِ الزُّبَيْرَ ، فَأَقْدَمَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لِذَلِكَ .
وَعَجَبًا لَهُ مَعَ تَبَحُّرِهِ فِي الْعُلُومِ وَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ كَيْفَ بَعُدَ عَلَيْهِ صَوَابُ الْقَوْلِ ، وَحَادَ عَنْ سَدَادِ النَّظَرِ ؛ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ مِنْ أَخْذِ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ الْمُفْضِيَةِ بِسَالِكِهَا إلَى السَّدَادِ ؛ فَنَظَرْنَا فِي مَوَارِدِ ( ه ج ر ) فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ فَوَجَدْنَاهَا سَبْعَةً : ضِدَّ الْوَصْلِ . مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ . مُجَانَبَةُ الشَّيْءِ ، وَمِنْهُ الْهَجْرَةُ . هَذَيَانُ الْمَرِيضِ . انْتِصَافُ النَّهَارِ . الشَّابُّ الْحَسَنِ . الْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ فِي حِقْوِ الْبَعِيرِ ثُمَّ يُشَدُّ فِي أَحَدِ رُسْغَيْهِ . وَنَظَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَوَارِدِ فَأَلْفَيْنَاهَا تَدُورُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْبَعْدُ عَنِ الشَّيْءِ فَالْهَجْرُ قَدْ بَعُدَ عَنِ الْوَصْلِ الَّذِي يَنْبَغِي مِنَ الْأُلْفَةِ وَجَمِيلِ الصُّحْبَةِ ، وَمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْقَوْلِ قَدْ بَعُدَ عَنِ الصَّوَابِ ، وَمُجَانَبَةُ الشَّيْءِ بُعْدٌ مِنْهُ وَأَخْذٌ فِي جَانِبٍ آخَرَ عَنْهُ ، وَهَذَيَانُ الْمَرِيضِ قَدْ بَعُدَ عَنْ نِظَامِ الْكَلَامِ ، وَانْتِصَافُ النَّهَارِ قَدْ بَعُدَ عَنْ طَرَفَيْهِ الْمَحْمُودَيْنِ فِي اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ وَإِمْكَانِ التَّصَرُّفِ . وَالشَّابُّ الْحَسَنُ قَدْ بَعُدَ عَنْ الْعَابِ ، وَالْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْبَعِيرُ قَدْ أَبْعَدَهُ عَن اسْتِرْسَالِهِ فِي تَصَرُّفِهِ وَاسْتِرْسَالِ مَا رُبِطَ عَنْ تَقَلْقُلِهِ وَتَحَرُّكِهِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، وَكَانَ مَرْجِعُ الْجَمِيعِ إلَى الْبُعْدِ فَمَعْنَى الْآيَةِ : أَبَعِدُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ . وَلَا يُحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْعَالَمُ ، وَهُوَ لَا يَنْبَغِي لِمِثْلِ السُّدِّيِّ وَالْكَلْبِيِّ فَكَيْفَ أَنْ يَخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ !
فَاَلَّذِي قَالَ : يُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ جَعَلَ الْمَضْجَعَ ظَرْفًا لِلْهَجْرِ ، وَأَخَذَ الْقَوْلَ عَلَى أَظْهَر الظَّاهِرِ ، وَهُوَ حَبْرُ الْأُمَّةِ ، وَهُوَ حَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى الْأَقَلِّ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْأُصُولِ .
وَاَلَّذِي قَالَ يَهْجُرُهَا فِي الْكَلَامِ حَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى الْأَكْثَرِ الْمُوفِي ، فَقَالَ : لَا يُكَلِّمُهَا وَلَا يُضَاجِعُهَا ، وَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ كَمَا يَقُولُ : اُهْجُرْهُ فِي اللَّهِ ، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ مَالِكٍ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ : بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ لَهُ نِسَاءٌ فَكَانَ يُغَاضِبُ بَعْضَهُنَّ ، فَإِذَا كَانَتْ لَيْلَتُهَا يَفْرِشُ فِي حُجْرَتِهَا وَتَبِيتُ هِيَ فِي بَيْتِهَا فَقُلْت لِمَالِكٍ : وَذَلِكَ لَهُ وَاسِعٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى : { وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } .
وَاَلَّذِي قَالَ : لَا يُكَلِّمُهَا وَإِنْ وَطِئَهَا فَصَرَفَهُ نَظَرُهُ إلَى أَنْ جَعَلَ الْأَقَلَّ فِي الْكَلَامِ ، وَإِذَا وَقَعَ الْجِمَاعُ فَتَرْكُ الْكَلَامِ سَخَافَةٌ ، هَذَا وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ .
وَاَلَّذِي قَالَ : يُكَلِّمُهَا بِكَلَامٍ فِيهِ غِلَظٌ إذَا دَعَاهَا إلَى الْمَضْجَعِ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنَ الْقَوْلِ فِي الرَّأْي ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَفَعَ التَّثْرِيبَ عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَهُوَ الْعِقَابُ بِالْقَوْلِ ، فَكَيْفَ يَأْمُرُ مَعَ ذَلِكَ بِالْغِلْظَةِ عَلَى الْحُرَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاضْرِبُوهُنَّ } :
ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : «أَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا ، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا ؛ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ، وَعَلَيْهِنَّ أَلَّا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، فَإِنْ انْتَهَيْنَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ » .
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاشِزَ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ ، وَأَنَّ الْفَاحِشَةَ هِيَ الْبَذَاءُ لَيْسَ الزِّنَا كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ ، فَفَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّرْبَ ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُبَرِّحًا ، أَيْ لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ عَلَى الْبَدَنِ يَعْنِي مِنْ جُرْحٍ أَوْ كَسْرٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : مِنْ أَحْسَنِ مَا سَمِعْت فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ؛ قَالَ : يَعِظُهَا فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلَّا ضَرَبَهَا ، فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ وَإِلَّا بَعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، فَيَنْظُرَانِ مِمَّن الضَّرَرُ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْخُلْعُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عَطَاءٌ : لَا يَضْرِبُهَا وَإِنْ أَمَرَهَا وَنَهَاهَا فَلَمْ تُطِعْهُ ، وَلَكِنْ يَغْضَبُ عَلَيْهَا .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مِنْ فِقْهِ عَطَاءٍ ، فَإِنَّهُ مِنْ فَهْمِهِ بِالشَّرِيعَةِ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَظَانِّ الِاجْتِهَادِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالضَّرْبِ هَاهُنَا أَمْرُ إبَاحَةٍ ، وَوَقَفَ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ : «إنِّي لَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ يَضْرِبُ أَمَتَهُ عِنْدَ غَضَبِهِ ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يُضَاجِعَهَا مِنْ يَوْمِهِ » .
وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُسْتُؤْذِنَ فِي ضَرْبِ النِّسَاءِ ، فَقَالَ : اضْرِبُوا ، وَلَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ » .
فَأَبَاحَ وَنَدَبَ إلَى التَّرْكِ . وَإِنَّ فِي الْهَجْرِ لَغَايَةَ الْأَدَبِ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ لَا يَسْتَوُونَ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يُقْرَعُ بِالْعَصَا وَالْحُرَّ تَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ ؛ وَمِنْ النِّسَاءِ ، بَلْ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ لَا يُقِيمُهُ إلَّا الْأَدَبُ ، فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّبَ ، وَإِنْ تَرَكَ فَهُوَ أَفْضَلُ .
قَالَ بَعْضُهُمْ - وَقَدْ قِيلَ لَهُ مَا أَسْوَأُ أَدَبِ وَلَدِكِ فَقَالَ : مَا أُحِبُّ اسْتِقَامَةَ وَلَدِي فِي فَسَادِ دِينِي .
وَيُقَالُ : مِنْ حُسْنِ خُلُقِ السَّيِّدِ سُوءُ أَدَبِ عَبْدِهِ .
وَإِذَا لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلرَّجُلِ زَوْجَةً صَالِحَةً وَعَبْدًا مُسْتَقِيمًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُهُ مَعَهُمَا إلَّا بِذَهَابِ جُزْءٍ مِنْ دِينِهِ ، وَذَلِكَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ .
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بَعْدَ الْهَجْرِ وَالْأَدَبِ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا .