الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } .
وَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
وَهِيَ مِنْ الْآيَاتِ الْأُصُولِ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَلَمْ نَجِدْ لَهَا فِي بِلَادِنَا أَثَرًا ؛ بَلْ لَيْتَهُمْ يُرْسِلُونَ إلَى الْأَمِينَةِ ، فَلَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ائْتَمَرُوا ، وَلَا بِالْأقيسةِ اجْتَزَوْا ، وَقَدْ نَدَبْت إلَى ذَلِكَ فَمَا أَجَابَنِي إلَى بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ عِنْدَ الشِّقَاقِ إلَّا قَاضٍ وَاحِدٌ ، وَلَا إلَى الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ إلَّا قَاضٍ آخَرُ ، فَلَمَّا وَلَّانِي اللَّهُ الْأَمْرَ أَجْرَيْتُ السُّنَّةَ كَمَا يَنْبَغِي ، وَأَرْسَلْتُ الْحَكَمَيْنِ ، وَقُمْت فِي مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ كَمَا عَلَّمَنِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْأَدَبِ لِأَهْلِ بَلَدِنَا لِمَا غَمَرَهُمْ مِنْ الْجَهَالَةِ ؛ وَلَكِنْ أَعْجَبُ لِأَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ عِنْدَهُ خَبَرٌ ، وَهُوَ كَثِيرًا مَا يَتْرُكُ الظَّوَاهِرَ وَالنُّصُوصَ لِلْأَقْيِسَةِ ؛ بَلْ أَعْجَبُ أَيْضًا مِنْ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ مَا نَصُّهُ : الَّذِي يُشْبِهُ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّهُ فِيمَا عَمَّ الزَّوْجَيْنِ مَعًا حَتَّى يَشْتَبِهَ فِيهِ حَالَاهُمَا ، وَذَلِكَ أَنِّي وَجَدْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَذِنَ فِي نُشُوزِ الزَّوْجِ بِأَنْ يُصَالَحَا ، وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ، وَبَيَّنَ فِي نُشُوزِ الْمَرْأَةِ بِالضَّرْبِ ، وَأَذِنَ فِي خَوْفِهِمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ بِالْخُلْعِ ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ بِرِضَاءِ الْمَرْأَةِ ، وَحُظِرَ أَنْ يَأْخُذُ الرَّجُل مِمَّا أَعْطَى شَيْئًا إنْ أَرَادَ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ ، فَلَمَّا أَمَرَ فِيمَنْ خِفْنَا الشِّقَاقَ بَيْنَهُمَا بِالْحَكَمَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا غَيْرُ حُكْمِ الْأَزْوَاجِ ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ بَعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، وَلَا يَبْعَثُ الْحَكَمَيْنِ إلَّا مَأْمُونَيْنِ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ وَتَوْكِيلِهِمَا لِلْحَكَمَيْنِ بِأَنْ يَجْمَعَا أَوْ يُفَرِّقَا إذَا رَأَيَا ذَلِكَ .
وَوَجَدْنَا حَدِيثًا بِإِسْنَادٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ لِلزَّوْجَيْنِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : هَذَا مُنْتَهَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابُهُ يَفْرَحُونَ بِهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَلَا يُشْبِهُ نِصَابَهُ فِي الْعِلْمِ ، وَقَدْ تَوَلَّى الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ الرَّدَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْصِفْهُ فِي الْأَكْثَرِ .
وَاَلَّذِي يَقْتَضِي الرَّدَّ عَلَيْهِ بِالْإِنْصَافِ وَالتَّحْقِيقِ أَنْ نَقُولَ : أَمَّا قَوْلُهُ الَّذِي يُشْبِهُ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّهُ فِيمَا عَمَّ الزَّوْجَيْنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ بَلْ هُوَ نَصُّهُ ، وَهِيَ مِنْ أَبْيَنِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَأَوْضَحِهَا جَلَاءً ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } .
وَمَنْ خَافَ مِنْ امْرَأَتِهِ نُشُوزًا وَعَظَهَا ؛ فَإِنْ أَنَابَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ ؛ فَإِن ارْعَوَتْ وَإِلَّا ضَرَبَهَا ، فَإِنْ اسْتَمَرَّتْ فِي غُلَوَائِهَا مَشَى الْحَكَمَانِ إلَيْهِمَا ؛ وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ بَيَانٌ .
وَدَعْهُ لَا يَكُونُ نَصًّا يَكُونُ ظَاهِرًا ، فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ الشَّافِعِيُّ يُشْبِهُ الظَّاهِرَ فَلَا نَدْرِي مَا الَّذِي يُشْبِهُ الظَّاهِرَ ؟ وَكَيْفَ يَقُولُ اللَّهُ : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } ؛ فَنَصَّ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ، وَيَقُولُ هُوَ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا عَمَّهُمَا وَأَذِنَ فِي خَوْفِهِمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ بِالْخُلْعِ ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ بِرِضَا الْمَرْأَةِ ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ، وَهُوَ نَصُّهُ .
ثُمَّ قَالَ : فَلَمَّا أَمَرَ بِالْحَكَمَيْنِ عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَهُمَا غَيْرُ حُكْمِ الْأَزْوَاجِ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَنْفُذَ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمَا ، فَتَتَحَقَّقُ الْغَيْرِيَّةُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَا يَبْعَثُ الْحَكَمَيْنِ إلَّا مَأْمُونَيْنِ فَصَحِيحٌ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ بِتَوْكِيلِهِمَا فَخَطَأٌ صُرَاحٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ خَاطَبَ غَيْرَ الزَّوْجَيْنِ إذَا خَافَا الشِّقَاقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِإِرْسَالِ الْحَكَمَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ غَيْرَهُمَا فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ بِتَوْكِيلِهِمَا ، وَلَا يَصِحُّ لَهُمَا حُكْمٌ إلَّا بِمَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَا يُخَالِفُ الْآخَرَ ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ هَاهُنَا .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَإِنْ خِفْتُمْ } :
قَالَ السُّدِّيُّ : يُخَاطِبُ الرَّجُل وَالْمَرْأَةَ إذَا ضَرَبَهَا فَشَاقَّتْهُ ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ لِحَكَمِهَا : قَدْ وَلَّيْتُكَ أَمْرِي وَحَالِي كَذَا ؛ وَيَبْعَثُ الرَّجُلُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَيَقُولُ لَهُ : حَالِي كَذَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمَالَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : الْمُخَاطَبُ السُّلْطَانُ ، وَلَمْ يَنْتَهِ رَفْعُ أَمْرِهِمَا إلَى السُّلْطَانِ ، فَأَرْسَلَ الْحَكَمَيْنِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : قَدْ يَكُونُ السُّلْطَانَ ، وَقَدْ يَكُونُ الْوَلِيَّيْنِ إذَا كَانَ الزَّوْجَانِ مَحْجُورَيْنِ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُخَاطَبَ الزَّوْجَانِ فَلَا يَفْهَمُ كِتَابَ اللَّهِ كَمَا قَدَّمْنَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ السُّلْطَانُ فَهُوَ الْحَقُّ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ : إنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْوَلِيَّيْنِ فَصَحِيحٌ ، وَيُفِيدُهُ لَفْظُ الْجَمْعِ ، فَيَفْعَلُهُ السُّلْطَانُ تَارَةً ، وَيَفْعَلُهُ الْوَصِيُّ أُخْرَى .
وَإِذَا أَنْفَذَ الْوَصِيَّانِ حَكَمَيْنِ فَهُمَا نَائِبَانِ عَنْهُمَا ، فَمَا أَنْفَذَاهُ نَفَذَ ، كَمَا لَوْ أَنْفَذَهُ الْوَصِيَّانِ .
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ ، وَأَيُّوبُ عَنْ عُبَيْدَةَ ، عَنْ عَلِيٍّ ؛ قَالَ : جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَمَعَهُمَا فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ ، فَأَمَرَهُمْ فَبَعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ : أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا ؟ إنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا ، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَرَّقْتُمَا .
فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ : رَضِيتُ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ لِي وَعَلَيَّ . وَقَالَ الزَّوْجُ ، أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا . فَقَالَ : لَا تَنْقَلِبْ حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ الَّذِي أَقَرَّتْ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ : فَبُنِيَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ إلَى الْحَكَمَيْنِ اللَّذَيْنِ بُعِثَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ وَلَا نَهْيٌ . فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا مَضَيَا مِنْ عِنْدِ عَلِيٍّ : رَضِيت بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِي وَعَلَيَّ . وَقَالَ الزَّوْجُ : لَا أَرْضَى . فَرَدَّ عَلَيْهِ عَلِيٌّ تَرْكَهُ الرِّضَا بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ كَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، أَوْ يُنَفِّذَ مَا فِيهِ بِمَا يَجِبُ مِنَ الْأَدَبِ ، فَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ لَمْ يَقُلْ لَهَا : أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا ؟ إنَّمَا كَانَ يَقُولُ : أَتَدْرِيَانِ بِمَا وُكِّلْتُمَا ، وَيَسْأَلُ الزَّوْجَيْنِ مَا قَالَا لَهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } :
هَذَا نَصٌّ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَنَّهُمَا قَاضِيَانِ لَا وَكِيلَانِ ، وَلِلْوَكِيلِ اسْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَعْنًى ، وَلِلْحُكْمِ اسْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَعْنًى ، فَإِذَا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَنْبَغِي لِشَاذٍّ - فَكَيْفَ لِعَالَمٍ - أَنْ يُرَكِّبَ مَعْنَى أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَذَلِكَ تَلْبِيسٌ وَإِفْسَادٌ لِلْأَحْكَامِ ، وَإِنَّمَا يَسِيرَانِ بِإِذْنِ اللَّهِ ، وَيُخْلِصَانِ النِّيَّةَ لِوَجْهِ اللَّهِ ، وَيَنْظُرَانِ فِيمَا عِنْدَ الزَّوْجَيْنِ بِالتَّثَبُّتِ ، فَإِنْ رَأَيَا لِلْجَمْعِ وَجْهًا جَمَعَا ، وَإِنْ وَجَدَاهُمَا قَدْ أَنَابَا تَرَكَاهُمَا ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، فَقَالَتْ : «اصْبِرْ لِي وَأُنْفِقُ عَلَيْكَ ، وَكَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَتْ : يَا بَنِي هَاشِمٍ ، لَا يُحِبُّكُمْ قَلْبِي أَبَدًا ، أَيْنَ الَّذِينَ أَعْنَاقُهُمْ كَأَبَارِيقِ الْفِضَّةِ ، تَرِدُ أُنُوفُهُمْ قَبْلَ شِفَاهِهِمْ ! أَيْنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ؟ أَيْنَ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ؟ فَيَسْكُتُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا وَهُوَ بَرِمٌ . فَقَالَتْ لَهُ : أَيْنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ؟ فَقَالَ : عَلَى يَسَارِكِ فِي النَّارِ إذَا دَخَلْتِ ، فَنَشَرَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا . فَجَاءَتْ عُثْمَانَ ، فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ ؛ فَأَرْسَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَهُمَا . وَقَالَ مُعَاوِيَةُ : مَا كُنْت لِأُفَرِّقَ بَيْنَ شَيْخَيْنِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ . فَأَتَيَاهُمَا فَوَجَدَاهُمَا قَدْ سَدًّا عَلَيْهِمَا أَبْوَابَهُمَا ، وَأَصْلَحَا أَمْرَهُمَا .
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا لَمَّا أَتَيَا اشْتَمَّا رَائِحَةً طَيِّبَةً وَهُدُوًّا مِنْ الصَّوْتِ . فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ : «ارْجِعْ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَا قَدْ اصْطَلَحَا » .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَفَلَا نَمْضِي فَنَنْظُرَ أَمْرَهُمَا ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : «فَنَفْعَلُ مَاذَا ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَئِنْ دَخَلْت عَلَيْهِمَا فَرَأَيْت الَّذِي أَخَافُ عَلَيْهِمَا مِنْهُ لَأَحْكُمَنَّ عَلَيْهِمَا ثُمَّ لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَهُمَا » .
فَإِنْ وَجَدَاهُمَا قَدْ اخْتَلَفَا سَعْيًا فِي الْأُلْفَةِ ، وَذَكَّرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِالصُّحْبَةِ ؛ فَإِنْ أَنَابَا وَخَافَا أَنْ يَتَمَادَى ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَا ظَهَرَ فِي الْمَاضِي ، فَإِنْ يَكُنْ مَا طَلَعَا عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي يُخَافُ مِنْهُ التَّمَادِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَرَّقَا بَيْنَهُمَا .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ : هُمَا شَاهِدَانِ يَرْفَعَانِ الْأَمْرَ إلَى السُّلْطَانِ ، وَيَشْهَدَانِ بِمَا ظَهَرَ إلَيْهِمَا .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ .
وَاَلَّذِي صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُمَا حَكَمَانِ لَا شَاهِدَانِ .
فَإِذَا فَرَّقَا بَيْنَهُمَا وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : تَكُونُ الْفُرْقَةُ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا لِوُقُوعِ الْخَلَلِ فِي مَقْصُودِ النِّكَاحِ مِنَ الْأُلْفَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا ظَهَرَ الظُّلْمُ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ الزَّوْجَةِ فَظُهُورُ الظُّلْمِ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ الظَّالِمِ حَقُّ الْمَظْلُومِ وَيَبْقَى الْعَقْدُ .
قُلْنَا : هَذَا نَظَرٌ قَاصِرٌ ، يُتَصَوَّرُ فِي عُقُودِ الْأَمْوَالِ ؛ فَأَمَّا عُقُودُ الْأَبْدَانِ فَلَا تَتِمُّ إلَّا بِالِاتِّفَاقِ وَالتَّآلُفِ وَحُسْنِ التَّعَاشُرِ ؛ فَإِذَا فُقِدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ وَجْهٌ ، وَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي الْفُرْقَةِ . وَبِأَيِّ وَجْهٍ رَأَيَاهَا مِنْ الْمُتَارَكَةِ أَوْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ الزَّوْجَةِ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : جَازَ وَنَفَذَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا .
قَالَ الطَّبَرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا بِرِضَاهُ ، وَبِهِ قَالَ كُلُّ مَنْ جَعَلَهُمَا شَاهِدَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا حَكَمَانِ لَا شَاهِدَانِ ، وَأَنَّ فِعْلَهُمَا يَنْفُذُ كَمَا يَنْفُذُ فِعْلُ الْحَاكِمِ فِي الْأَقْضِيَةِ ، وَكَمَا يَنْفُذُ فِعْلُ الْحَكَمَيْنِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَهِيَ أُخْتُهَا .
وَالْحِكْمَةُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ ، فَخَصَّ الشَّرْعَ هَاتَيْنِ الْوَاقِعَتَيْنِ بِحَكَمَيْنِ ؛ لِيَنْفُذَ حُكْمُهُمَا بِعِلْمِهِمَا ، وَتَرْتَفِعَ بِالتَّعْدِيدِ التُّهْمَةُ عَنْهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا كَانَتِ الْإِسَاءَةُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ ائْتَمَنَاهُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْهُمَا فَرَّقَا بَيْنَهُمَا عَلَى بَعْضِ مَا أَصْدَقَهَا ، وَلَا يَسْتَوْعِبَانِهِ لَهُ ، وَعِنْدَهُ بَعْضُ الظُّلْمِ ، رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْ أَشْهَبَ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } :
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ : هُمَا الْحَكَمَانِ إذَا أَرَادَا الْإِصْلَاحَ وَفَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ، وَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُمَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَوْفِيقِهِ فَقَدْ صَلُحَ أَمْرُهُمَا وَأَمْرُ الزَّوْجَيْنِ ، فَكُلُّ مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ ، وَالْأَصْلُ هِيَ النِّيَّةُ ، فَإِذَا صَلُحَتْ صَلُحَتِ الْحَالُ كُلُّهَا ، وَاسْتَقَامَتِ الْأَفْعَالُ وَقُبِلَتْ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : الْأَصْلُ فِي الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَكُونَا مِنَ الْأَهْلِ ؛ وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَهْلَ أَعْرَفُ بِأَحْوَالِ الزَّوْجَيْنِ ، وَأَقْرَبُ إلَى أَنْ يَرْجِعَ الزَّوْجَانِ إلَيْهِمَا ؛ فَأَحْكَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْرَ بِأَهْلِهِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَهْلٌ ، أَوْ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ لِعَدَمِ الْعَدَالَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَخْتَارُ حَكَمَيْنِ عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا كَيْفَمَا كَانَ عَدَمُ الْحَكَمَيْنِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَا جَارَيْنِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْحَكَمَيْنِ مَعْلُومٌ ، وَاَلَّذِي فَاتَ بِكَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِهِمَا يَسِيرٌ ، فَيَكُونُ الْأَجْنَبِيُّ الْمُخْتَارُ قَائِمًا مَقَامَهُمَا ، وَرُبَّمَا كَانَ أَوْفَى مِنْهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إذَا حَكَمَا بِالْفِرَاقِ فَإِنَّهُ بَائِنٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا كُلِّيٌّ ، وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ .
أَمَّا الْكُلِّيُّ فَكُلُّ طَلَاقٍ يُنَفِّذُهُ الْحَاكِمُ فَإِنَّهُ بَائِنٌ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ هُوَ الشِّقَاقُ ، وَلَوْ شُرِعَتْ فِيهِ الرَّجْعَةُ لَعَادَ الشِّقَاقُ ، كَمَا كَانَ أَوَّلَ دُفْعَةٍ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يُفِيدُ شَيْئًا ؛ فَامْتَنَعَت الرَّجْعَةُ لِأَجَلِهِ . فَإِنْ أَوْقَعَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ ؛ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ : يَنْفُذُ . وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ : لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً .
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ يَنْفُذُ أَنَّهُمَا حَكَمَا فَيُنَفَّذُ مَا حَكَمَا بِهِ . وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ حُكْمَهُمَا لَا يَكُونُ فَوْقَ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَا يُطَلِّقُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ ، كَذَلِكَ الْحَكَمَانِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَرَدُّهُ الْمَسْأَلَةَ إلَى مَسْأَلَةِ خِيَارِ الْأُمَّةِ حَزْمٌ ، وَالْأَصْلُ وَاحِدٌ ، وَالْأَدِلَّةُ مُتَدَاخِلَةٌ وَمُتَقَارِبَةٌ فَلْيَطْلُبْ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فَإِنْ حَكَمَ أَحَدُهُمَا بِوَاحِدَةٍ ، وَالْآخَرُ بِثَلَاثٍ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : يَنْفُذُ الْوَاجِبُ ، و هِيَ الْوَاحِدَةُ الَّتِي اتَّفَقَا عَلَيْهَا وَيَلْغُو مَا زَادَ .
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ ، لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا . وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ .
وَلَوْ طَلَّقَ أَحَدُهُمَا طَلْقَةً وَالْآخَرُ طَلْقَتَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ تَلْزَمُهُ طَلْقَتَانِ .
وَقَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَصَحُّ ، كَالشَّاهِدَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْعَدَدِ قُضِيَ بِالْأَقَلِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا حَكَمَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ مَالِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ ، لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ مَحْضٌ . كَالشَّاهِدَيْنِ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِبَيْعٍ وَالْآخَرُ بِهِبَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ اتِّفَاقًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : إذَا عَلِمَ الْإِمَامُ مِنْ حَالِ الزَّوْجَيْنِ الشِّقَاقَ لَزِمَهُ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمَا حَكَمَيْنِ وَلَا يَنْتَظِرُ ارْتِفَاعَهُمَا ؛ لِأَنَّ مَا يَضِيعُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَثْنَاءَ مَا يَنْتَظِرُ رَفْعُهُمَا إلَيْهِ لَا جَبْرَ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : يُجْزِئُ إرْسَالُ الْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَكَمَ فِي الزِّنَا بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ ، ثُمَّ قَدْ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ أُنَيْسًا ، وَقَالَ لَهُ : «إنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا » ، وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْمُدَوَّنَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَوْ أَرْسَلَ الزَّوْجَانِ حَكَمَيْنِ ، وَحَكَمَا نَفَذَ حُكْمُهُمَا ؛ لِأَنَّ التَّحْكِيمَ عِنْدَنَا جَائِزٌ ، وَيَنْفُذُ فِعْلُ الْحَكَمِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ . هَذَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدْلًا ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : حُكْمُهُ مَنْقُوضٌ ؛ لِأَنَّهُمَا تَخَاطَرَا بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْغَرَرِ . وَالصَّحِيحُ نُفُوذُهُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ تَوْكِيلًا فَفِعْلُ الْوَكِيلِ نَافِذٌ ، وَإِنْ كَانَ تَحْكِيمًا فَقَدْ قَدَّمَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا ، وَلَيْسَ الْغَرَرُ بِمُؤَثِّرٍ فِيهِ ، كَمَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي التَّوْكِيلِ ، وَبَابُ الْقَضَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَرَرِ كُلِّهِ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ فِيهِ مَعْرِفَةُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ الْحُكْمُ .