الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ من أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي ثُبُوتِهَا :
اعْلَمُوا -وَفَّقَكُمْ اللَّهُ- أَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّافِضَةَ كَادَتْ الْإِسْلَامَ بِآيَاتٍ وَحُرُوفٍ نَسَبَتْهَا إلَى الْقُرْآنِ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ أَنَّهَا مِنَ الْبُهْتَانِ الَّذِي نَزَغَ بِهِ الشَّيْطَانُ ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ نَقَلُوهَا وَأَظْهَرُوهَا حِينَ كَتَمْنَاهَا نَحْنُ ، وَقَالُوا : إنَّ الْوَاحِدَ يَكْفِي فِي نَقْلِ الْآيَةِ وَالْحُرُوفِ كَمَا فَعَلْتُمْ ، فَإِنَّكُمْ أَثْبَتُّمْ آيَةً بِقَوْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ من أَنْفُسِكُمْ } ؛ وَقَوْلُهُ : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } .
قُلْنَا : إنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَقْلِ التَّوَاتُرِ ، بِخِلَافِ السُّنَّةِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِنَقْلِ الْآحَادِ . وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشَّاهِدَةُ بِصِدْقِهِ ، الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ ، فَأَبْقَاهَا اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ ، وَتَوَلَّى حِفْظَهَا بِفَضْلِهِ ، حَتَّى لَا يُزَادَ فِيهَا وَلَا يُنْقَضَ مِنْهَا . وَالْمُعْجِزَاتُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُعَايَنَةً إنْ كَانَتْ فِعْلًا ، وَإِمَّا أَنْ تَثْبُتَ تَوَاتُرًا إنْ كَانَتْ قَوْلًا ، لِيَقَعَ الْعِلْمُ بِهَا ، أَوْ تُنْقَلَ صُورَةُ الْفِعْلِ فِيهَا أَيْضًا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا حَتَّى يَقَعَ الْعِلْمُ بِهَا ، كَأَنَّ السَّامِعَ لَهَا قَدْ شَاهَدَهَا ، حَتَّى تَنْبَنِيَ الرِّسَالَةُ عَلَى أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ ، بِخِلَافِ السُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ يُعْمَلُ فِيهَا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ ؛ إذْ لَيْسَ فِيهَا مَعْنًى أَكْثَرُ مِنَ التَّعَبُّدِ .
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْسِلُ كُتُبَهُ مَعَ الْوَاحِدِ ، وَيَأْمُرُ الْوَاحِدَ أَيْضًا بِتَبْلِيغِ كَلَامِهِ ، وَيَبْعَثُ الْأُمَرَاءَ إلَى الْبِلَادِ وَعَلَى السَّرَايَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَوْ وَقَفَ فِيهَا عَلَى التَّوَاتُرِ لَمَا حَصَلَ عِلْمٌ ، وَلَا تَمَّ حُكْمٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالدِّينِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِيمَا رُوِيَ فِيهَا :
ثَبَتَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ : أَرْسَلَ إلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ ، فَقَالَ : إنَّ الْقِتَالَ قَدْ اسْتَحَرَّ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا ، فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ : كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ قَالَ عُمَرُ : هُوَ وَاَللَّهِ خَيْرٌ ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ ، وَرَأَيْت فِيهِ الَّذِي رَأَى .
قَالَ زَيْدٌ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ : إنَّك شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُك ، قَدْ كُنْت تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ ، فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ . قَالَ : فَوَاَللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ من ذَلِكَ .
قُلْت : كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : هُوَ وَاَللَّهِ خَيْرٌ . فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . فَتَتَبَّعْت الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ من الرِّقَاعِ وَالْعُسُبِ ، وَذَكَرَ كَلِمَةً مُشْكِلَةً تَرَكْنَاهَا .
قَالَ زَيْدٌ : فَوَجَدْت آخِرَ بَرَاءَةٍ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ من أَنْفُسِكُمْ . . . } إلَى : { الْعَظِيمِ } انْتَهَى الْحَدِيثُ .
فَبَقِيَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا بَعْدَهُ عُمَرُ ، ثُمَّ صَارَتْ عِنْدَ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ قَدِمَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ عَلَى عُثْمَانَ ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ ، فَرَأَى حُذَيْفَةُ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْقُرْآنِ ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ ، كَمَا اخْتَلَفَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى .
فَأَرْسَلَ إلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إلَيْنَا بِالصُّحُفِ فَنَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إلَيْكِ . فَأَرْسَلَتْ حَفْصَةُ إلَى عُثْمَانَ بِالصُّحُفِ ، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنْ انْسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ . وَقَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ : إذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ ، حَتَّى إذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ بَعَثَ عُثْمَانُ إلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ من تِلْكَ الْمَصَاحِفِ الَّتِي نَسَخُوا .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَحَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ : فَقَدْت آيَةً من سُورَةٍ كُنْت أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَؤُهَا : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } فَالْتَمَسْتهَا فَوَجَدْتهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ ، فَأَلْحَقْتهَا فِي سُورَتِهَا . قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَاخْتَلَفُوا يَوْمَئِذٍ فِي التَّابُوتِ وَالتَّابُوهِ ، فَقَالَ الْقُرَشِيُّونَ : التَّابُوتُ . وَقَالَ زَيْدٌ التَّابُوهُ . فَرُفِعَ اخْتِلَافُهُمْ إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ : اُكْتُبُوهُ التَّابُوتُ . فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ ، وَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ ، وَيَتَوَلَّاهَا رَجُلٌ ، وَاَللَّهِ لَقَدْ أَسْلَمْت وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ يُرِيدُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ . وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ ، اُكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ، فَالْقُوا اللَّهَ بِالْمَصَاحِفِ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ من مَقَالَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ من أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا من حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي بَرَاءَةٍ ، وَآيَةُ الْأَحْزَابِ لَمْ تَثْبُتْ بِوَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَنْسِيَّةً ، فَلَمَّا ذَكَرَهَا مَنْ ذَكَرَهَا أَوْ تَذَكَّرَهَا مَنْ تَذَكَّرَهَا عَرَفَهَا الْخَلْقُ ، كَالرَّجُلِ تَنْسَاهُ ، فَإِذَا رَأَيْت وَجْهَهُ عَرَفْته ، أَوْ تَنْسَى اسْمَهُ وَتَرَاهُ ، وَلَا يَجْتَمِعُ لَك الْعَيْنُ وَالِاسْمُ ، فَإِذَا انْتَسَبَ عَرَفْته .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : من غَرِيبِ الْمَعَانِي أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الطَّيِّبِ سَيْفَ السُّنَّةِ وَلِسَانَ الْأُمَّةِ تَكَلَّمَ بِجَهَالَاتٍ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ ، لَا تُشْبِهُ مَنْصِبَهُ ، فَانْتَصَبْنَا لَهَا لِنُوقِفَكُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِيهَا :
أَوَّلُهَا : قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ : هَذَا حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ ، وَذَكَرَ اخْتِلَافَ رِوَايَاتٍ فِيهِ ، مِنْهَا صَحِيحَةٌ وَمِنْهَا بَاطِلَةٌ ، فَأَمَّا الرِّوَايَاتُ الْبَاطِلَةُ فَلَا نَشْتَغِلُ بِهَا ، وَأَمَّا الصَّحِيحَةُ فَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ : رُوِيَ أَنَّ هَذَا جَرَى فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ جَرَى فِي عَهْدِ عُثْمَانَ ، وَبَيْنَ التَّارِيخَيْنِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُدَّةِ ؛ وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ نَقُولَ هَذَا كَانَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ ، ثُمَّ نَقُولَ : كَانَ هَذَا فِي عَهْدِ عُثْمَانَ ؛ وَلَوْ اخْتَلَفَ تَارِيخُ الْحَدِيثِ فِي يَوْمٍ من أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ لَوَجَبَ رَدُّهُ ، فَكَيْفَ أَنْ يَخْتَلِفَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمُدَّتَيْنِ الطَّوِيلَتَيْنِ ؟
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : يُقَالُ لِلسَّيْفِ هَذِهِ كَهْمَةٌ من طُولِ الضِّرَابِ ، هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَخَفْ وَجْهُ الْحَقِّ فِيهِ ، إنَّمَا جَمَعَ زَيْدٌ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ : إحْدَاهُمَا لِأَبِي بَكْرٍ فِي زَمَانِهِ ، وَالثَّانِيَةُ لِعُثْمَانَ فِي زَمَانِهِ ، وَكَانَ هَذَا فِي مَرَّتَيْنِ لِسَبَبَيْنِ وَلِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ : فَكَانَ لِئَلَّا يَذْهَبَ الْقُرْآنُ بِذَهَابِ الْقُرَّاءِ ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ : ( يَذْهَبُ الْعِلْمُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِذَهَابِ الْعُلَمَاءِ ) ، فَلَمَّا تَحَصَّلَ مَكْتُوبًا صَارَ عُدَّةً لِمَا يُتَوَقَّعُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا جَمْعُهُ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ فَكَانَ لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْقِرَاءَةِ ، فَجُمِعَ فِي الْمَصَاحِفِ لِيُرْسَلَ إلَى الْآفَاقِ ، حَتَّى يُرْفَعَ الِاخْتِلَافُ الْوَاقِعُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ .
ثَانِيهَا : قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ : من اضْطِرَابِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ زَيْدًا تَارَةً قَالَ : وَجَدْت هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ السَّاقِطَةَ ، وَتَارَةً لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَتَارَةً ذَكَرَ قِصَّةَ بَرَاءَةٍ ، وَتَارَةً قِصَّةَ الْأَحْزَابِ أَيْضًا بِعَيْنِهَا .
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : يُقَالُ لِلِّسَانِ : هَذِهِ عَثْرَةٌ ، وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ عَقْلًا أَوْ عَادَةً أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الرَّاوِي حَدِيثٌ مُفَصَّلٌ يَذْكُرُ جَمِيعَهُ مَرَّةً ، وَيَذْكُرُ أَكْثَرَهُ أُخْرَى ، وَيَذْكُرُ أَقَلَّهُ ثَالِثَةً ؟
ثَالِثُهَا : قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ مَوْضُوعًا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ : إنَّ زَيْدًا وَجَدَ الضَّائِعَ مِنَ الْقُرْآنِ عِنْدَ رَجُلَيْنِ . وَهَذَا بَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ وَكَلَ حِفْظَ مَا سَقَطَ وَذَهَبَ عَنْ الْأَجِلَّةِ الْأَمَاثِلِ مِنَ الْقُرْآنِ بِرَجُلَيْنِ : خُزَيْمَةَ ، وَأَبِي خُزَيْمَةَ .
قَالَ الْقَاضِي : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى الرَّجُلُ الشَّيْءَ ثُمَّ يَذْكُرَهُ لَهُ آخَرُ ، فَيَعُودَ عِلْمُهُ إلَيْهِ . وَلَيْسَ فِي نِسْيَانِ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ لَهُ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ اسْتِحَالَةٌ عَقْلًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، وَلَا شَرْعًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ حِفْظَهُ ، وَمِنْ حِفْظِهِ الْبَدِيعِ أَنْ تَذْهَبَ مِنْهُ آيَةٌ أَوْ سُورَةٌ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ ، فَيَذْكُرَهَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ ، فَيَتَذَكَّرَهَا الْجَمِيعُ ؛ فَيَكُونَ ذَلِكَ من بَدِيعِ حِفْظِ اللَّهِ لَهَا .
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ ، فَكَيْفَ تَدَّعِي عَلَيْهِ الْوَضْعَ ، وَقَدْ رَوَاهُ الْعَدْلُ عَنْ الْعَدْلِ ، وَتَدَّعِي فِيهِ الِاضْطِرَابَ ، وَهُوَ فِي سِلْكِ الصَّوَابِ مُنْتَظِمٌ ، وَتَقُولُ أُخْرَى : إنَّهُ من أَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَمَا الَّذِي تَضَمَّنَ مِنَ الِاسْتِحَالَةِ أَوْ الْجَهَالَةِ حَتَّى يُعَابَ بِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ . وَأَمَّا مَا ذَكَرْته فِي مُعَارَضَتِهِ عَنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ أَوْ عَنْ رَأْيٍ فَهُوَ الْمُضْطَرِبُ الْمَوْضُوعُ الَّذِي لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ ، فَكَيْفَ يُعَارَضُ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ بِالضِّعَافِ وَالثِّقَاتُ بِالْمَوْضُوعَاتِ ؟
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فَإِنْ قِيلَ : فَمَا كَانَتْ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ؟ قُلْنَا : هَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بِالرِّوَايَةِ ، وَقَدْ عَدِمَتْ ، لَا هَمَّ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ قَدْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ وُجُوهًا ، أَجْوَدُهَا خَمْسَةٌ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً ، وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ لِلْحَاجَةِ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ، وَأَنَّهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي مِثْلِهَا بِقَوْلِهِ : { يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } ؛ فَهَذَا اقْتِدَاءٌ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ تَحْقِيقَ قَوْلِ اللَّهِ : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ؛ فَقَدْ كَانَ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا ، وَأَخْبَرَنَا أَنْ يَحْفَظَهُ بَعْدَ نُزُولِهِ ، وَمِنْ حِفْظِهِ تَيْسِيرُ الصَّحَابَةِ لِجَمْعِهِ ، وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَضَبْطِهِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْتُبُهُ كَتَبَتُهُ بِإِمْلَائِهِ إيَّاهُ عَلَيْهِمْ ، وَهَلْ يَخْفَى عَلَى مُتَصَوِّرٍ مَعْنًى صَحِيحًا فِي قَلْبِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى كَتْبِهِ وَضَبْطِهِ بِالتَّقْيِيدِ فِي الصُّحُفِ ، وَلَوْ كَانَ مَا ضَمِنَهُ اللَّهُ من حِفْظِهِ لَا عَمَلَ لِلْأُمَّةِ فِيهِ لَمْ يَكْتُبْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ إخْبَارِ اللَّهِ لَهُ بِضَمَانِ حِفْظِهِ ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّ حِفْظَهُ مِنَ اللَّهِ بِحِفْظِنَا وَتَيْسِيرَهُ ذَلِكَ لَنَا وَتَعْلِيمَهُ لِكِتَابَتِهِ وَضَبْطِهِ فِي الصُّحُفِ بَيْنَنَا .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ ثَبَتَ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ السَّفَرِ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ ) ؛ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ بَيْنَ الْأُمَّةِ مَكْتُوبٌ مُسْتَصْحَبٌ فِي الْأَسْفَارِ ، هَذَا من أَبْيَنِ الْوُجُوهِ عِنْدَ النُّظَّارِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَأَمَّا كِتَابَةُ عُثْمَانَ لِلْمَصَاحِفِ الَّتِي أُرْسِلَتْ إلَى الْكُوفَةِ وَالشَّامِ وَالْحِجَازِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْقِرَاءَاتِ ، فَأَرَادَ ضَبْطَ الْأَمْرِ لِئَلَّا يَنْتَشِرَ إلَى حَدِّ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ ، كَمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي كُتُبِهِمْ ، وَكَانَ جَمْعُ أَبِي بَكْرٍ لَهُ لِئَلَّا يَذْهَبَ أَصْلُهُ ؛ فَكَانَا أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِسَبَبَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ . وَقَدْ كَانَ ( وَقْعُ مِثْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَبَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَاخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ ، فَاحْتَمَلَ عُمَرُ هِشَامًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمْلًا ، حَتَّى قَرَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا قَرَأَ بِخِلَافِ قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ ، فَصَوَّبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكُلَّ ، وَأَنْبَأَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِاخْتِلَافٍ ، إذْ الْكُلُّ من عِنْدِ اللَّهِ ، بِأَمْرِهِ نَزَلَ ، وَبِفَضْلِهِ تَوَسَّعَ فِي حُرُوفِهِ حَتَّى جَعَلَهَا سَبْعَةً ) ؛ فَاخْتَارَ عُثْمَانُ وَالصَّحَابَةُ من تِلْكَ الْحُرُوفِ مَا رَأَوْهُ ظَاهِرًا مَشْهُورًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مَذْكُورًا ، وَجَمَعُوهُ فِي مَصَاحِفَ ، وَجُعِلَتْ أُمَّهَاتٍ فِي الْبُلْدَانِ تَرْجِعُ إلَيْهَا بَنَاتُ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فَأَمَّا حَالُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْكَارُهُ عَلَى زَيْدٍ أَنْ يَتَوَلَّى كَتْبَ الْمَصَاحِفِ ، وَهُوَ أَقْدَمُ قِرَاءَةً . قُلْنَا : يَا مَعْشَرَ الطَّالِبِينَ لِلْعِلْمِ ، مَا نَقَمَ قَطُّ عَلَى عُثْمَانَ شَيْءٌ إلَّا خَرَجَ مِنْهُ كَالشِّهَابِ ، وَأَنْبَأَ أَنَّهُ أَتَاهُ بِعِلْمٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُقْسِطِ ، وَعِنْدَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا قَالَ وَبَلَغَ عُثْمَانُ :
قَالَ عُثْمَانُ : مَنْ يَعْذُرُنِي من ابْنِ مَسْعُودٍ ، يَدْعُو النَّاسَ إلَى الْخِلَافِ وَالشُّبْهَةِ ، وَيَغْضَبُ عَلَيَّ أَنْ لَمْ أُوَلِّهِ نَسْخَ الْقُرْآنِ ، وَقَدَّمْت زَيْدًا عَلَيْهِ ، فَهَلَّا غَضِبَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حِينَ قَدَّمَا زَيْدًا لِكِتَابَتِهِ وَتَرَكَاهُ ، إنَّمَا اتَّبَعْت أَنَا أَمْرَهُمَا ، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إلَّا حَسَّنَ قَوْلَ عُثْمَانَ وَعَابَ ابْنَ مَسْعُودٍ .
وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا ، وَقَدْ أَبَى اللَّهُ أَنْ يُبْقِيَ لِابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ أَثَرًا ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَرَاجَعَ أَصْحَابَهُ فِي الِاتِّبَاعِ لِمُصْحَفِ عُثْمَانَ وَالْقِرَاءَةِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ بَعْدَ رَبْطِ الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَضَبْطِ الْقُرْآنِ بِالتَّقْيِيدِ .
قُلْنَا : إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِلتَّوْسِعَةِ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهَا ، وَرَحِمَ بِهَا من قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ، فَأَقْرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا ، وَأَخَذَ كُلُّ صَاحِبٍ من أَصْحَابِهِ حَرْفًا أَوْ جُمْلَةً مِنْهَا . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ تَارَةً فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ ، وَتَارَةً فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْقِرَاءَةِ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا فِي أَلْسِنَةِ النَّاسِ الْيَوْمَ ، وَلَكِنَّ الصَّحَابَةَ ضَبَطَتْ الْأَمْرَ إلَى حَدٍّ يُقَيَّدُ مَكْتُوبًا ، وَخَرَجَ مَا بَعْدَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا حَتَّى أَنَّ مَا تَحْتَمِلُهُ الْحُرُوفُ الْمُقَيَّدَةُ فِي الْقُرْآنِ قَدْ خَرَجَ أَكْثَرُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ، وَقَدْ انْحَصَرَ الْأَمْرُ إلَى مَا نَقَلَهُ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ بِالْأَمْصَارِ الْخَمْسَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أَرْسَلَ ثَلَاثَةَ مَصَاحِفَ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ احْتَبَسَ مُصْحَفًا ، وَأَرْسَلَ إلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ ثَلَاثَةَ مَصَاحِفَ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ أَرْسَلَ أَرْبَعَةً إلَى الشَّامِ وَالْحِجَازِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَتْ سَبْعَةَ مَصَاحِفَ ، فَبَعَثَ مُصْحَفًا إلَى مَكَّةَ ، وَإِلَى الْكُوفَةِ آخَرَ ، وَمُصْحَفًا إلَى الْبَصْرَةِ ، وَمُصْحَفًا إلَى الشَّامِ ، وَمُصْحَفًا إلَى الْيَمَنِ ، وَمُصْحَفًا إلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَمُصْحَفًا عِنْدَهُ . فَأَمَّا مُصْحَفُ الْيَمَنِ وَالْبَحْرَيْنِ فَلَمْ يُسْمَعْ لَهُمَا خَبَرٌ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهَذِهِ الْمَصَاحِفُ إنَّمَا كَانَتْ تَذْكِرَةً لِئَلَّا يَضِيعَ الْقُرْآنُ ، فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَإِنَّمَا أُخِذَتْ بِالرِّوَايَةِ لَا مِنَ الْمَصَاحِفِ ، أَمَّا إنَّهُمْ كَانُوا إذَا اخْتَلَفُوا رَجَعُوا إلَيْهَا فَمَا كَانَ فِيهَا عَوَّلُوا عَلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ الْمَصَاحِفُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتَتْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ ، وَأَسْقَطَتْهُ فِي الْبَعْضِ ، لِيُحْفَظَ الْقُرْآنُ عَلَى الْأُمَّةِ ، وَتَجْتَمِعَ أَشْتَاتُ الرِّوَايَةِ ، وَيَتَبَيَّنَ وَجْهُ الرُّخْصَةِ وَالتَّوْسِعَةِ ، فَانْتَهَتْ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ إلَى أَرْبَعِينَ حَرْفًا فِي هَذِهِ الْمَصَاحِفِ ، وَقَدْ زِيدَتْ عَلَيْهَا أَحْرُفٌ يَسِيرَةٌ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ تُرِكَتْ ؛ فَهَذَا مُنْتَهَى الْحَاضِرِ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الْفَنُّ الَّذِي تَصَدَّيْنَا لَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إذَا ثَبَتَتْ الْقِرَاءَاتُ ، وَتَقَيَّدَتْ الْحُرُوفُ فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يَقْرَأَ بِقِرَاءَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، كَنَافِعٍ مثلًا ، أَوْ عَاصِمٍ ؛ بَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ فَيَتْلُو حُرُوفَهَا عَلَى ثَلَاثِ قِرَاءَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ قُرْآنٌ ، وَلَا يَلْزَمُ جَمْعُهُ ؛ إذْ لَمْ يُنَظِّمْهُ الْبَارِي لِرَسُولِهِ ، وَلَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى التَّعَبُّدِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَ الْخَلْقَ بِالدَّلِيلِ أَلَّا يَتَعَدَّوْا الثَّابِتَ إلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ ، فَأَمَّا تَعْيِينُ الثَّابِتِ فِي التِّلَاوَةِ فَمُسْتَرْسِلٌ عَلَى الثَّابِتِ كُلِّهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .