قوله تعالى : { وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ( 23 ) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ( 24 ) } :
تضمن هذه الآية الحض على بر الوالدين . وقد جاء في ذلك من الأحاديث ما لا يحصى ولا ينبغي أن يخصص شيء من الآيات بنوع من البر دون نوع إلا أن يؤتي به على جهة المثال . وقد قال مجاهد في قوله تعالى : { فلا تقل لهما أف } معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخوخة الغائط والبول فلا تعزرهما {[9583]} وتقل أف {[9584]} . ولو لم يكن من الآية إلا قوله تعالى : { فلا تقل لهما أف } لاكتفى بذلك في الحض على بر الوالدين لأنه تعالى لئن كان قد نهى في ذلك عن القليل فبالضرورة يكون ما فوقه من الضرب والشتم أحرى بالنهي عنه ، وهذا من إلحاق المسكوت عنه{[9585]} بالمنطوق به على القطع ، وقد يسمى هذا بفحوى اللفظ ، وقد يسمى بمفهوم الموافقة . وقد اختلف الأصوليون في تسمية هذا قياسا ، والأظهر أن لا يسمى بذلك {[9586]} . وقد اختلف فيمن كان بينه وبين أبيه خصومة فأراد أن يحلفه . فقيل يحلفه ولا يكون بذلك عاقا ، وهو قول مالك وقول {[9587]} ابن الماجشون وظاهر قول ابن القاسم وأصبغ . وقيل يحلفه ويحده في حق يقع له عليه ، ويكون عاقا بذلك ولا يعذر فيه بجهل ، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم .
وقيل لا يمكن من أن يحلفه ولا من أن يحده لأنه من العقوق ، وهو مشهور مذهب مالك ، وهو أظهر الأقوال لقوله تعالى : { ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما } ، ولما جاء من أنه عليه الصلاة والسلام قال : " ما بر والديه من شدد النظر إليهما أو إلى أحدهما " {[9588]} . وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يمن للولد على والده وللمملوك على سيده " {[9589]} .
ويشهد لصحته قوله عليه الصلاة والسلام : " أنت ومالك لأبيك " {[9590]} . وكذلك اختلف في القصاص من الوالد للولد والنظر في المثلين واحد .
وقوله تعالى : { واخفض لهما جناح الذل } مما يحتج به الأصوليون على من أنكر وجود المجاز في القرآن .
وقوله تعالى : { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } فيه جواز الدعاء للأبوين على الإطلاق إلا أنه قد اختلف المفسرون فيها . فذهب قوم – منهم قتادة – إلى أنها منسوخة {[9591]} لأنها اقتضت الاستغفار للآباء المشركين ، وذلك منسوخ بقوله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [ التوبة : 113 ] . وذهب جماعة إلى أنها محكمة ، واختلفوا في التأويل . فذهب قوم إلى أنه يجوز أن يستغفر للآباء المشركين {[9592]} إذا كانوا أحياء ، فخصصوا الآية بالأحياء من الآباء . وقيل الآية عامة استثنى منها الكفار بقوله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا } وبقيت في المؤمنين . ولا يجوز الاستغفار للكفار أحياء ولا أمواتا . وقد اختلف في بر الأب والأم هل هما سواء فيهما أم بر {[9593]} الأم أفضل . فالأكثر على أن بر الأم أفضل . إلا أنه زعم الليث بن سعد أن لها ثلثي البر . وفي حديث أبي هريرة ما يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر ، وهو أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : من أحق الناس بحق الصحبة ؟ قال : " أمك " . قال : ثم من ؟ قال : " أمك " . قال : ثم من ؟ قال : " أمك " . قال له إن أبي من بلاد السودان وكتب إلي أن أقدم عليه وأمي تمنعني من ذلك . قال طع أباك ولا تعص أمك {[9594]} . فدل قول مالك على أنهما في البر متساويان ولو كان لأحدهما عنده فضل لأمر بالمصير إلى أمره . وفي الآية حجة لهذا القول لأنه تعالى أمر بالدعاء لهما ولم يفضل أحدهما بزيادة في الدعاء فدل ذلك على استواء المنزلة . وزعم المحاسبي {[9595]} أن تفضيل الأم على الأب في البر إجماع {[9596]} .