29 – قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء } الآية |البقرة : 29| .
قوله : { لكم } قيل : معناه لتعتبروا ، ويدل عليه ما قدم من ذكر العبر . وقيل : معنى قوله { لكم } إباحة الأشياء وتمليكها ، حتى قال بعضهم : هذا يدل على إباحة الأشياء في الأصل إلا ما ورد فيه دليل الخطر .
وقال ابن عطية في " تفسيره " : " هذا قول من يقول : إن الأشياء قبل ورود النهي على الإباحة " ثم ساق الأقوال الثلاثة في ذلك هل هي على الإباحة أو الحظر أو الوقف{[64]} ؟
وهذا وهم ، لأن الذين اختلفوا { الخلاف الذي ذكره إنما اختلفوا } {[65]} فيما لم يرد فيه سمع ما حكمه في العقل قبل أن يرد السمع ، والحجة بالآية على قول الإباحة وهم ، لأن الآية نفسها هي الشرع . فإن دلت على الإباحة ، فالشرع أعطى الإباحة لا العقل ، وهي مسألة ثانية هل الأشياء المسكوت عنها في الشرع – وهي التي لم يرد فيها حكم ولا دليل – محمولة على الإباحة بهذا الدليل العام ، أم هي موقوفة على دليل يخصها ؟
فحكى القاضي أبو محمد عبد الوهاب ، عن محمد بن عبد الحكم ، وبعض متأخري أصحابه : أن الشرع قد قرر أن الأشياء في الأصل على الإباحة ، إلا ما استثناه الدليل . وقد قال بهذا المذهب رجال من أهل العلم . وأكثر العلماء على خلافه ، وأنه لا يعلم حكم شيء إلا بدليل يخصه أو يخص نوعه{[66]} .
وفائدة هذا الاختلاف أنه إذا وقع الاختلاف في حكم في الشرع هل هو على الحظر أو على الإباحة ؟ حكم فيه هؤلاء بأنه على الإباحة ، لأن الشرع قد ورد بذلك فيه فصار كالعقل عند القائلين بالإباحة . وهؤلاء ليسوا يقولون إن الأشياء في العقل على الإباحة ، ولكن زعموا إن السمع أحل جميعها ثم استثنى السمع سائر ما حرم ، فمتى لم ينص على تحريم كان الأصل تحليله بالشرع ، لا بحكم العقل . واحتجوا بقوله تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } |الأعراف : 32| وبقوله : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية |الأنعام : 145| وبحديث سلمان " الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله ، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه " {[67]} . ومثل ما ذكره عبد الوهاب في هذه المسألة إذا تعارض عند المجتهد دليلان في حظر وإباحة ، ولم يكن ترجيح . وكذلك موجب ومبيح ، وكذلك محرم وموجب ، منهم من يميل إلى الإباحة كما قدمنا ، ومنهم من يميل إلى الموجب ، ومنهم من يميل إلى الحظر . وقد روي مثل ذلك عن مالك في مسألة المدر وأنه لا يجوز بيعه ، ومنهم من يتوقف حتى يأتي دليل آخر ، وكذلك يتصور في كل تعارض من الوجوه المذكورة الثلاثة الأقوال .
29 – قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء } الآية |البقرة : 29| .
هذه { ثم } إن حملت على بابها من الترتيب اقتضت أن الأرض وما فيها خلق قبل السماء . وقد قال بذلك قوم . وقوله تعالى في سورة النازعات بعد ذكر خلق السماء { والأرض بعد ذلك دحاها30 } |النازعات : 30| يقتضي ظاهرها أن السماء خلقت قبل الأرض ، وقد قال به قوم{[68]} . وكذلك ما في الأرض على ما في سورة فصلت{[69]} . و الصواب أن يجمع بين الآيات ، فيقال : إن الأرض خلقت قبل السماء على ما في سورة البقرة ، ثم خلقت السماء ، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء على ما في سورة النازعات{[70]} ، وفصلت{[71]} . ويحتمل أن تكون { ثم } في هذه الآية لترتيب الأخبار لا لترتيب الأمر في نفسه . وإذا كان هذا لم يعطيا أن السماء خلقت بعد الأرض ، وإذا لم تقتض ذلك أمكن أن تحمل الآية الأخرى على ظاهرها فيصح القول الآخر . والأمر يحتمل ولا قاطع فيه من الشرع . وقد جاءت بذلك أخبار آحاد . وإذا لم يكن في الترتيب خبر متواتر و الآيات محتملة فلا قاطع في المسألة . ويحتمل أن تكون الأرض و السماء قد خلقهما الله تعالى خلقا واحدا دون تقدم ثم دحيت الأرض بعد السماء ، ودحيت قبل السماء . ويترتب ما في الآيتين على هذا ويخرج خروجا حسنا و الله تعالى أعلم ، وهو قدير على ما يشاء إذ كل ذلك جائز في العقل .
29 – وفي هذه الآية قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء } |البقرة : 29| .
والاستواء يوهم تكييفا وتشبيها . فمن الناس من استمر على هذا التشبيه واعتقده تشبثا بالظاهر وهم الكرامية وجماعة من أهل الحديث{[72]} وغيرهم . ومنهم وهم الجمهور من نفى التشبيه والتكييف . واختلفوا في هذه الآية وما جانسها فمنهم من رأى تأويلها وصرفها إلى معنى لا يوهم تشبيها . ومنهم من لم ير لتأويلها وجها وقال : تمر كما جاءت من غير اعتقاد تشبيه ولا تكييف . والذين ذهبوا إلى تأويلها اختلفوا في التأويل اختلافا بحسب ما يحتمله اللفظ في كلام العرب وإطلاقهم فقيل : معنى استوى في هذه الآية استولى{[73]} وأنشدوا :
قد استوى بشر على العراق{[74]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقيل : علا أمره وقدرته وسلطانه وهو اختيار الطبري{[75]} . وقال ابن كيسان : معناه قصد إلى السماء أي بخلقه واختراعه{[76]} . وقيل : معناه كمل صنعه فيها كما تقول : قد استوى الأمر . وقيل : معناه أقبل . وحكى الطبري{[77]} عن بعضهم هو الدخان .
ولتحقيق القول الصحيح من هذه الأقوال موضع غير هذا وهو في كتب الكلام وليس كل ما قاله المفسرون صحيحا ، لأن كثيرا منهم إنما ينظرون إلى المعنى ولا يلتفتون إلى الألفاظ . وتصحيح اللفظ على المعنى أولى ما اعتبر . وقد رأيت بعضهم أحصى في قوله تعالى : { الرحمان على العرش استوى 5 } |طه : 5| أكثر من عشرة أقوال . وإذا حققت لم يصح منها إلا اليسير{[78]} .