67- قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } الآية |البقرة : 67| .
هذه الآية مقدمة في التلاوة مؤخرة في المعنى{[170]} ، من الآية التي بعدها وهي قوله : { وإذ قتلتم نفسا } الآية |البقرة : 72| مؤخرة في التلاوة ومقدمة في المعنى على الآية قبلها{[171]} . وإنما يقدر هذا لأن البقرة إنما أمر بذبحها بسبب القتيل وقع أولا ، ثم الأمر بذبح البقرة بعد ذلك{[172]} . ويجوز أن يكون قوله تعالى : { وإذ قتلتم نفسا فادارءتم فيها } مقدما في النزول ، وجاءت التلاوة به على ما هو مِؤخر ويجوز أن ترتب نزولها على حسب تلاوتها{[173]} فكأن الله تعالى أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ، ثم وقع أمر الفتيل فأمروا أن يضربوه ببعضها ، ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها ، وإن كان أمر القتيل مقدما في المعنى لأن الواو لا توجب ترتيبا{[174]} ، كقول القائل اذكر إذا أعطيت زيدا ألف درهم وأبني داري . والبناء مقدم على العطية . ونظيره في قصة نوح بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله تعالى : { قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين } إلى قوله : { إلا قليلا } |هود : 40| فذكر إهلاك من هلك منهم ، ثم عطف عليه{[175]} بقوله : { وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها } |هود : 41| فالمعنى يجب مراعاة ترتيبه لا اللفظ ، وقد اختلف في قوله تعالى : { أن تذبحوا } هذه هل هي مجمل يفتقر إلى بيان ، أو عام فإن قلنا : إنه مجمل ففيه دليل على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة وإذا قلنا : إنه عموم وهو الذي ذهب إليه بعض حذاق الأصوليين كان ما بعده بيانا على مذهب كثير من الأصوليين ، وعلى مذهب القاضي يكون نسخا . وقد اعترض على من قال هذا ، فقيل له : نسخ قبل مجيء وقته ، فأجابوا بأنه قد جاء وقته وقصروا في الأداء ، قيل : فهلا أنكر عليهم في أول المراجعة ، فأجابوا : إن التغليظ ضرب من التكبر ، ودل عليه قوله : { وما كادوا يفعلون } {[176]} . وعلى القول بأنه لفظ عام لم يكن للمراجعة فيه وجه ، لأن الامتثال كان يصح بأي بقرة كانت ، إلا على قول الواقفية في لفظ{[177]} العموم ، فإن حكمه عندهم حكم المجمل في الاحتياج إلى البيان ، ويدل على أنه لم يكن لهم التوقيف فيه .
وقوله تعالى : { أن تذبحوا بقرة } |البقرة : 67| في هذا دليل على أن السنة في البقر الذبح . روى إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه قال فيمن نحر البقر بئس ما صنع لأن الله تعالى أمر بالذبح{[178]} . قال الباجي{[179]} : ووجه ذلك أنه أمر بالذبح ولابد أن يكون على الوجوب أو على الندب ، وأقل أحواله الندب . وهذا إنما يصح التعلق به على قول من قال : إن شريعة من قبلنا شرع لنا إلا أن يتبين النسخ في القضية بعينها .
وعلى كل حال فقد قال مالك : إن نحرت تؤكل . وهذا الذي قاله الباجي من أن الأمر بالذبح على الوجوب ، أو الندب واستدل بذلك على أن أقل درجاته الندب ، غير صحيح ، لأن هذا إنما هو في نفس الأمر بالذبح ، وأما كون النحر جائزا فإنما يؤخذ من نفس تخصيص الذبح هل يدل على نفي ما عداه من النحر أم لا ؟ فمن قال بدليل هذا الخطاب احتمل أن لا يجيز النحر ويقدم دليل الخطاب على خبر الواحد الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه نحر عن أزواجه البقر " {[180]} واحتمل أن يجيزه ويقدم خبر الواحد{[181]} ، على دليل الخطاب ومن لم يقل بدليل الخطاب أثبت النحر بالحديث زيادة على الذبح . هذا هو مذهب الجمهور جواز الذبح والنحر في البقر . وقد ذهب قوم ومنهم محمد بن حيي المكي{[182]} ، والحسن بن صالح الكوفي ، إلى أن حكمها أن تنحر ولا تذبح . وهذا قول ترده الآية ولا متعلق له إلا أن يكون يرى فعل النبي صلى الله عليه وسلم في النحر ناسخا للآية ، وهذا قول ترده الأصول لأنه خبر آحاد ، ووقع الإجماع على أن القرآن لا ينسخ |بخبر|{[183]} الآحاد .
وذهب بعضهم إلى أن السنة فيها الذبح وإن نحرت لم تؤكل . ولا حجة لهم إلا التعلق بدليل خطاب الآية وتقديمه على الخبر وهو قول شاذ . وقد اختلف في نحر ما السنة فيه الذبح ، وذبح ما السنة فيه النحر ، فأجازه أحمد وإسحاق ، وعبد العزيز بن سلمة ، دون كراهة . وكرهه أبو حنيفة ، والشافعي وبعض أصحاب مالك . ومنعه مالك في المشهور عنه{[184]} . واعتل أصحابه لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم بين وجه الذكاة فنحر الإبل وذبح الشاء والطير{[185]} ، ولا يجوز تحويل ذلك عن موضعه مع القدرة عليه إلا لحجة واضحة . وقال ابن بكير{[186]} : يؤكل البقر إذا ذبح ولا تؤكل الشاة إذا نحرت . وقال ابن المنذر : لا أعلم أحدا حرم أكل ما نحر مما يذبح ولا ما ذبح مما ينحر ، وإنما كره ذلك مالك ولم يحرمه . وحجة الجمهور أنه لما جاز في البقر الذبح والنحر جاز ذلك في كل ما يجوز تذكيته ، وقد بوب البخاري لذلك بابا وساق قول عطاء بجوازه وأنه احتج بهذه الآية في ذبح ما ينحر{[187]} .
وصفة الذبح المتفق عليها هي أن يقطع{[188]} أربعة أشياء : الودجين والحلقوم والمريء واختلف إن قصر عن ذلك هل يكون ذلك ذبحا أم لا ؟ فمنهم من رأى أن الذبح يتم بفري الأدواج والحلقوم ولم يعتبر فري الحلقوم خاصة . وأما الشافعي فاعتبر فريه والمريء ولم يعتبر الودجين قال : لأنا نجدهما يسيلان من البهيمة والإنسان ويعيشان . وقال بعض الكوفيين : إن قطع ثلاثة من هذه الأربعة جاز . ومن صفة الذبح أيضا المتفق عليها أن يبتدئ بالذبح من الحلق فإن ابتدأ من القفا ، ومر حتى قطع الرأس فمنهم من رأى أن ذلك قتلا ، ولم يره ذبحا ، فقال : لا يؤكل ، وبه قال مالك ، وأجاز أكلها الشافعي وغيره . وكرهه ابن المسيب{[189]} . ومن صفة الذبح المتفق عليها أيضا إذا بدأ بالحلق أن يقف عند النخاع ولا يقطعه فإن قطعه ففيه خلاف : منهم من كره أكل تلك الذبيحة ، وهو قول عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله بن عمر ، وهو النخع الذي نهى عنه ابن عمر . ومنهم من أجاز أكلها ، وبه قال الجمهور . وكذلك إذا استمر الذابح في الذبح حتى قطع الرأس ، فالجمهور على جواز الأكل وكرهه آخرون . وقال بعضهم : والجواز هو الصواب . وقال علي بن أبي طالب : هي ذكاة وجبة{[190]} . واختلف هل من صفة الذبح اعتبار الغلصمة{[191]} وأن تبقى إلى الرأس أم لا ؟ فأنكر قوم اعتبار ذلك ، واحتجوا بأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في ذلك شيء ولو كان ذلك يعتبر لما أغفلوه ، ودليل |خطاب|{[192]} هذه الآية أن الحيوان المتأنس ، لا يؤكل إلا بذكاة في موضع الذكاة ، فإن ند ، فهل يؤكل بما يؤكل به الصيد ؟ اختلف فيه ، وكذلك إن وقع في موضع لا يتوصل به الى ذكاته ، فهل يؤكل بطعن فيما عدا المذبح أم لا ؟ ففيه خلاف{[193]} ، ولم أستقص ما في هذا من الخلاف لأنه ليس بمحله{[194]} . {[195]}
67- وقوله تعالى : { أتتخذنا هزوا } |البقرة : 67| .
هذا القول لنبي صحت معجزته ولا يصدر من مؤمن به ، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم لوجب تكفيره . وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية على نحو ما قال القائل للنبي –عليه السلام- في قسمة غنائم حنين : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله تعالى{[196]} ، وكما قال الآخر{[197]} : اعدل يا محمد{[198]} .