قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي . . . } إلى قوله تعالى : { فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته } :
استدل بعض الناس بقوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } على أن كل نبي رسول وكل رسول نبي لأنه تعالى أطلق الرسالة عليهما جميعا . فقال : { وما أرسلنا } {[9847]}والذي عليه الجمهور أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسول ورأوا أن الرسالة فيهما تختلف وأنها جاءت في الآية مبهمة . ورسالة الرسول الوحي ورسالة النبي إيقاع الشيء في نفسه دون وحي . وقوله تعالى : { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } اختلف في معنى تمنى فقيل أراد ، والأمنية الإرادة ، والمعنى أن الشيطان ألقى ألفاظه بسبب ما تمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم من معاينة قومه وكونهم متبعين له . قالوا فلما تمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ما لم يقضه الله تعالى وجد الشيطان السبيل فألقى ما ألقى من اللفظ . وسيأتي تفسيره . وقيل تمنى : تلا ، والأمنية التلاوة . وقال تمنى/ كتاب الله تعالى أول ليلة وآخره لاقى حمام المقدر . وقيل تمنى والأمنية الحديث . ومعنى ألقى في حديثه أي في تطوره وخاطره ما توهمه أنه صواب ثم نبهه الله تعالى على ذلك . والذي ألقاه الشيطان في أمنيته صلى الله عليه وسلم أنه حين قرأ : { والنجم } [ النجم : 1 ] في مسجد مكة قد حضر المسلمون والمشركون حتى بلغ إلى قوله تعالى : { أفرأيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) } [ النجم : 19 ، 20 ] فألقى الشيطان : تلك الغرانقة الأولى وأن شفاعتهم لترتجى . فقال الكفار هذا محمد قد ذكر آلهتها بما يزيد وفرحوا بذلك فلما انتهى إلى السجدة سجد الناس أجمعون إلا أمية بن خلف {[9848]} فإنه أخذ قبضة من تراب فرفعها إلى جبهته وقال : يكفيني هذا . وقيل هو الوليد بن المغيرة {[9849]} وقيل هو أبو أحيحة سعيد بن العاص . ثم اتصل الخبر {[9850]} بمهاجرة الحبشة {[9851]} أن أهل مكة اتبعوا محمدا ففرحوا بذلك . فأقبل بعضهم فوجد ألقية الشيطان قد نسخت وأهل مكة قد وقعوا في فتنة . واختلف في صورة الإلقاء ، فالذي عليه الأكثر أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بتلك الألفاظ وأن الشيطان أوهمه حتى خرجت على لسانه . وروي أن جبريل عليه السلام نزل بعد ذلك فدارسه { والنجم } فلما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له جبريل : لم آتك بهذا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " افتريت على الله وقلت ما لم يقل " فتفجع واغتم ، فنزلت الآية . وذهب قوم إلى أن هذا لا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم قالوا : وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قوله : { أفرأيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) } وقرب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين وقالوا قرأها محمد ، ونحو هذا قد روي عن أبي المعالي {[9852]} . وقال ابن حزم {[9853]} : الحديث الذي فيه : " وأنهن لهن الغرانيق العلا وأن شفاعتهم لترتجى " كذب بحت لم يصح نقله فلا معنى للاشتغال به . وقوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } الآية ، فإن المراد به الأماني الواقعة في النفس . وقد تمنى النبي صلى الله عليه وسلم إسلام عمه أبي طالب ولم يرد الله عز وجل أن يسلم . وتمنى غلبة العدو يوم أحد ولم يرد الله تعالى ذلك . فهذه هي الأماني التي ذكرها الله تعالى {[9854]} .
قلت وقد احتج بالآية والحديث من يجيز وقوع المعاصي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ولا حجة فيه لضعفه وما تحمل الآية من التأويل ، والنسخ في هذا الموضع الإزالة .