قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا . . . } إلى قوله تعالى : { قل للمؤمنين } :
سبب هذه الآية أن امرأة من الأنصار قالت يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والدي ولا ولدي وأنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال . فنزلت تلك الآية وهي محمولة على العموم في جميع الناس في كل زمان {[10026]} ولهذا قال ابن عباس وغيره إنه لا ينبغي للإنسان أن يدخل البيت الذي يأتيه إلا بعد الاستئناس . وجاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له : أأستأذن على أمي ؟ قال : " نعم " . قال : إنما هي أمي ولا خادم لها غيري . قال : " أتحب أن تراها عريانة ؟ " قال : لا . قال : " فاستأذن عليها " {[10027]} قالت زينب {[10028]} امرأة أبي مسعود {[10029]} كان أبو مسعود إذا جاء منزله تنحنح مخافة أن يهجم على ما يكره {[10030]} . وقال ابن عباس تستأذن على أمك وعلى أختك وعلى كل من لا يجوز أن ترى منها عورة {[10031]} . وظاهر الآية وجوب الاستئذان والسلام ، إلا أن المشهور من السلام أنه لا يبلغ مبلغ الوجوب . وقد اختلف في معنى قوله تعالى : { حتى تستأنسوا } فذهب بعضهم إلى أن معناه أن يعلم الداخل أن المدخول عليه لا يكره دخوله ، فالاستئناس على هذا شيء يرجع إلى ما في القلب لا إلى النطق باللسان وهو الثقة بالمقصود ، ورجح هذا إسماعيل القاضي وتأول عليه حديث عمر بن الخطاب في حديث المشربة . قال إسماعيل ولا بد مع ذلك من الاستئذان . وذهب ابن القاسم في جامع العتبية إلى أنه التسليم وهو بعيد لأنه تعالى قال : { حتى تستأنسوا وتسلموا } فلو كان كذلك لكان معنى الكلام حتى تسلموا وتسلموا . وذهب جماعة – منهم مالك – إلى أن الاستئناس في الآية غير التسليم وأنه الاستئذان ، إلا أنهم اختلفوا في مطابقة اللفظ للمعنى . فذهب الأكثر إلى أنهما متطابقان ، إلا أنهم اختلفوا في كيفية التطابق فذهب جماعة – منهم الزجاج وغيره – إلى أن معنى تستأنسوا في اللغة ، تستأذنوا . قال وكذلك جاء في التفسير . والاستئناس الاستعلام بمعنى تستأنسوا : تستعلموا . يريد أهلها {[10032]} أن يدخلوا أم لا قالوا وآنس الشيء في اللغة علمه إما بالقلب وإما بالحس . والاستعلام لا يكون إلا بالصواب لمن في البيت أو بالتنحنح ونحو ذلك ولا معنى للاستئذان إلا ذلك . فاستأنسوا على هذا القول راجع إلى الاستئذان ومعنى لفظه الاستعلام . وذهب جماعة منهم أيضا إلى أن معناه تستأذنوا ، إلا أنهم قالوا إنه مأخوذ من الأنس ، وإليه ذهب الطبري وقال : وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم مختبرا بذلك من فيه وهل فيه أحد وليؤذنهم أنه داخل عليهم فيأنسوا إلى إذنهم له في ذلك ويأنسوا إلى استئذانهم إياه{[10033]} وحكي عن العرب سماعا اذهب فاستأنس حتى ترى أحدا في الدار . وهذا يمكن أن يحمل على القول الأول فلا يكون فيه حجة لما ذكره الطبري وكذلك قول عمر : استأنس يا رسول الله ، وعمر واقف بباب الغرفة {[10034]} الحديث المشهور يمكن أن يتأول على القولين جميعا . وذهب قوم إلى أن اللفظ غير مطابق للمعنى وقالوا إنما تستأنسوا وهم من الكاتب على ما جاء عن ابن عباس أنه قال إنما هي حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها وحكى أبو حاتم {[10035]} هذه القراءة حتى تسلموا وتستأذنوا وهو في قراءة عبد الله {[10036]} حتى تستأذنوا وتسلموا . وهذا القول خطأ لأن تستأنسوا قد ثبت بين اللوحين ونقلته الكافة نقل التواتر فهو القرآن وغيره ليس بقرآن إذ لم يأت إلا من نقل الآحاد ، وما كان كذلك لم يقنع أن يعارض به الثابت بالتواتر مع أنا نجد للثابت بالتواتر معنى صحيحا . والذي ينبغي أن يقال في قراءة من قرأ تستأذنوا أنها على جهة التفسير . واختلف هل في هذه الآية تقديم وتأخير أم لا ؟ فذهب الفراء والكسائي{[10037]} إلى أن فيها تقديما تأخيرا وأن معناها حتى تسلموا وتستأذنوا وهي {[10038]} بمعنى تستأنسوا وإنما قالا ذلك لما ذكرناه من قراءة أبي ومن تابعه على رواية أبي حاتم . وذهب غيرهما أنه لا تقديم ولا تأخير في الآية وأنها على ما قرئت عليه من القراءة المشهورة ، فالاستئذان مشروع بالقرآن والسنة . وقد قال عليه الصلاة والسلام : " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " {[10039]}وقد اختلف في كيفية الاستئذان وهي الاستئناس المذكور في الآية . فقيل السلام خاصة على ما روي عن ابن القاسم قال : يسلم ثلاث مرات فإن أذن له وإلا انصرف . وقد بينا ضعف هذا القول . وقال الأكثر إن الاستئذان غير السلام وأنه يجمع بينهما كما جاء في الآية . واختلف فيما يبدأ به السلام أو الاستئذان ، فعلى قول الفراء والكسائي يأتي أن يبدأ بالسلام . وكيفية ذلك أن يقول : السلام عليكم ، أأدخل ؟ ثلاث مرات . ومن حجة هذا القول إن عمر فيما روى عنه ابن عباس : قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له قلت : السلام عليك يا رسول الله أيدخل عمر {[10040]} وما جاء عنه عليه الصلاة والسلام : " لا تأذنوا لمن لم يبدأ بالسلام " {[10041]} وجاء في الحديث أيضا أن رجلا جاء إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أألج أو أتلج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة : " قولي لهذا يقول السلام عليكم أأدخل " فسمعه الرجل فقالها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ادخل " {[10042]} وعلى مذهب من لا يرى في الآية تقديما ولا تأخيرا ويراعى ما ابتدئ به في اللفظ يرى أن يبدأ بالاستئذان قبل السلام ، واختار هذا القول بعض المتأخرين . وعلى مذهب من لا يراعي اللفظ ويرى التخيير في ذلك بأن الواو لا ترتيب فيها . وقد اختلفت الروايات في صفة استئذان أبي موسى على عمر بن الخطاب . فروي أنه قال السلام عليكم أدخل ، ثلاث مرات . وروي أنه قال يستأذن أبو موسى ، يستأذن الأشعري ، يستأذن عبد الله بن قيس {[10043]} وقد قال أبو أيوب الأنصاري : قلت يا رسول الله هذا السلام فما الاستئذان ؟ قال : " يتكلم الرجل بتسبيح وتكبير وتنحنح يؤذن أهل البيت " {[10044]} وإذا قلنا إن الاستئذان مشروع فهل له حد أم لا ؟ فقيل أما في الآية فليس فيه دليل على شيء من ذلك بل هي مبيحة للاستئذان جملة دون حد فيه وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الاستئذان ثلاث فإن أذنوا لك فادخل وإلا فارجع " {[10045]} وفي حديث آخر أن أبا سعيد قال : كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال : استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت فقال ما منعك قلت : استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع والله لا تقيمن على ذلك بينة أو لأوجعنك " . أفيكم أحدا سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم قال أبي بن كعب : والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم . فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك الحديث مفسرا للآية وأن غاية الاستئذان ثلاث {[10046]} . واختلف في المذهب هل تجوز الزيادة على الثلاث إن لم يسمع أم لا ؟ فقيل : له أن يزيد ، وحجة هذا القول ظاهر الآية إذ لم يأت فيه حد وإنما أطلق لفظ الاستئذان إطلاقا . وقيل لا يزيد ، على هذا يدل مذهب أبي موسى ، وحجة هذا القول أن الحديث مفسر للآية ، وقيل إنه . . . . {[10047]} .