– قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم . . . . } إلى قوله تعالى : { والذين يبتغون الكتاب } :
الأيامى الذين لا أزواج لهم رجالا كانوا أو نساء . قال الشاعر : لله در على أيم منهم وناكح {[10102]} والمخاطبون بهذه الآية في إنكاح الأيامى هم الأولياء . وقيل كل أحد كان وليا أو مأذونا له . والأول أظهر لأن المقصود من الخطاب ترك الفضل والمنع وذلك يقتضي الاختصاص بالأولياء والحاكم ، فإن هؤلاء الذين يجب عليهم التزويج دون الأجانب . وعلى القولين ففي الآية دليل على عدم استقلال المرأة بالإنكاح . واستدل بعضهم على ذلك أيضا بما يعقب قوله : { وأنكحوا الأيامى منكم } في قوله : { والصالحين من عبادكم وإمائكم } قالوا فكما لم يصح للعبد والأمة ولاية كذلك الأيامى المعطوف عليهما ذلك القول . وقد اختلف في المرأة هل يجوز لها{[10103]} أن تتزوج بغير ولي أم لا {[10104]} فمنع جملة في المذهب وأجيز جملة في الثيبات والأبكار البوالغ وهو قول أبي حنيفة . وأجيز في الثيبات ومنع في البكر وهو قول أهل الظاهر . واعتبر أبو يوسف إذن الولي خاصة فهذه أربعة أقوال أجراها على الأصول القول الأول . وفي هذه الآية دليل عليه كما قدمنا . وإذا قلنا بذلك فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى هذه الولاية إذ الآية تحتمل أن يزوج الولي الأيم شاءت أو أبت ، ويحتمل أن يكون بأمرها ، فقال عليه الصلاة والسلام : " الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها " {[10105]} فجعل الأيم أحق بنفسها أي أن الولي لا يزوجها إلا بإذنها . ثم قال " والبكر تستأذن في نفسها " أي لا يعقد عليها الولي أيضا إلا بإذنها ، وهي داخلة تحت قوله عليه الصلاة والسلام : " الأيم أحق بنفسها " وقد كان ذلك يغني عن هذا ، إلا أنه لما اختلفت سورة الإذن منها أعاد ذكرها فقال : " والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها " ، فجعل إذنها الصمات بخلاف غيرها من الأيامى . وهذا {[10106]} في غير البكر ذات الأب فإن الأب يعقد عليها ولا يحتاج إلى إذن بدليل قوله عليه الصلاة والسلام في بعض رواية هذا الحديث : " واليتيمة تستأمر في نفسها " {[10107]} ، وهذا هو تحصيل مذهب مالك رحمه الله تعالى في الآية والحديث . وقد تعلق بعضهم – وهو داود الأصبهاني – {[10108]} بظاهر الحديث فلم يجز للأب ولا لغيره إنكاح البكر صغيرة كانت أم كبيرة إلا بإذنها . ورأى بعضهم أن له ذلك في الصغيرة من الأبكار دون المبالغة . ووجه تعلق {[10109]} هذين القولين ما جاء في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام : " والبكر تستأذن في نفسها " فتأوله كل فريق على رأيه . وروي عن الحسن أن الأب يزوج البكر والثيب بغير إذنهما وإن كرهتا . فهذه أربعة أقوال في ذات الأب أعدلها قول مالك رحمه الله تعالى : وظاهر الآية يقتضي أن ذلك نكاح للأولياء ولم يشترط الإذن ، إلا أن الدليل القاطع دل على أن المالكات أمورهن من النساء ومن لا أب لها من غير المالكات أمورهن لا يزوجن إلا بإذنهن وبقي الغير تحت العموم حتى يخصص بدليل قاطع .
– وقوله تعالى : { والصالحين من عبادكم وإمائكم } :
يريد الذين يصلحون للنكاح منهم ذكورهم وإناثهم . والمخاطبون بإنكاحهم السادة ، ولا خلاف في هذا . وقد اختلف هل للسيد أن يجبر عبده وإماءه على النكاح أم لا ؟ ففي المذهب أن له أن يجبر إذا لم يرد ضررا . وحكي عن أبي حنيفة مثله ، وهو أحد قولي الشافعي . وفي أحد قولي الشافعي أنه لا يجبرهما ، قاله أبو ثور واستحسنه المروزي ، وقال أصحاب الرأي يكره أمته ولا يكره عبده {[10110]} فهذه ثلاثة أقوال أصحها القول الأول دليله قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } ولم يشترط رضاهم . وقد تعترض هذه الحجة بأنه يلزم مثل ذلك في الأيامى الأحرار لأن الأمر في الآية ورد فيها ورودا واحدا . وقد قال النخعي كانوا يكرهون المملوكين على النكاح ويغلقون عليهم لأبواب {[10111]} واختلف هل يجبر السيد {[10112]} على إنكاح العبد إذا طلب منه ذلك أم لا ؟ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يجبر ، وقال الشافعي يجبر ومن حجته قوله تعالى : { وأنكحوا } فأمر بإنكاحهم . والحجة للقول الأول مبسوطة في غير ما كتاب من كتب المذهب ، والذي يقال في الآية إن الأمر فيها أمر {[10113]} عام فهو {[10114]} يختلف على حسب النظر والأثر . فمن الناس من يلزم إنكاحه إذا طلب ذلك بظاهر الآية ومنهم من لا يلزم له ذلك بحسب ما تخصص به العموم في القياس أو الأثر {[10115]} .
وقوله تعالى : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } :
وعد تعالى بإغناء الفقراء المتزوجين طلب رضا الله تعالى . وقد قال ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح . وقال عمر رضي الله تعالى عنه : عجبي لمن لا يطلب الغنى بالنكاح ، وذكر الآية . واحتج بعضهم بهذه الآية على أنه لا يفرق بين الزوجين إذا كان الزوج فقيرا لا يقدر على النفقة لأن الله تعالى قال : { يغنهم الله من فضله } ولم يفرق بينهم ، وهو قول بعض العلماء {[10116]} . وهذا الانتزاع ضعيف وليس الآية بحكم فيمن عجز عن النفقة وإنما هي وعد بالإغناء كما قد وعد به مع التفرق في قوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } [ النساء : 130 ] ثم قال تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله } فأمر كل من يتعذر عليه النكاح بأي وجه كان أن يستعفف عما حرمه الله تعالى . ثم لما كان أغلب الموانع من النكاح عدم المال وعده بالإغناء من فضله . وقال قوم من المفسرين أن المراد بالنكاح هنا ما ينكح به من المهر والنفقة وحملهم على ذلك قوله تعالى : { حتى يغنيهم الله من فضله } {[10117]} والقول الأول أظهر لعموم ما قالوه وغيره . وقد استدل بعضهم بهذه الآية على بطلان نكاح المتعة ، قال : ولا يفهم منه التحريم بملك اليمين لأن من لا يقدر على النكاح لعدم المال لا يقدر على شراء الجارية غالبا {[10118]} .