– قوله تعالى : { والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم . . . . } إلى قوله تعالى : { ولا تكرهوا } :
أمر تعالى في هذه الآية السادة أن يكاتبوا مملوكيهم إذا طلبوا ذلك إليهم وعلم السادة فيهم خيرا . وسبب هذه الآية أن غلاما سأل مولاه الكتابة فأبى عليه فنزلت الآية . قال بعضهم والغلام غلام حويطب بن عبد العزى {[10119]} وهو الذي كان سأل حويطباء وقال بعضهم الغلام صبيح القبطي {[10120]} غلام حاطب بن أبي بلتعة {[10121]} . وقد اختلف في هذا الأمر بالكتابة هل هو على الوجوب أو على الندب ؟ ففي المذهب أنه على الندب . وفي غير المذهب لعطاء وداود وغيرهما أنه على الوجوب واختاره الطبري وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب لأنس بن مالك في سيرين حين سأل سيرين الكتابة فتلكأ أنس ، فقال له لتكاتبه أو لأوجعنك بالدرة {[10122]} فعلى هذا يلزم الرجل إذا طلب عبده منه الكتابة أن يكاتبه ويجبر على ذلك كله خلافا للقول الأول . واحتج أهل القول الأول في ذلك لأمرين : أحدهما : قياس الكتابة على البيع ، قالوا فكما لو سأله البيع لم يلزمه ، كذلك إن سأله الكتابة لأنه بيع ، وحملوا بهذا الدليل بالآية الأمر على الندب . وإطلاق المحتج بهذا أن الكتابة بيع ، فيه نظر . لأن كسب العبد لسيده فكيف يبيع ماله بماله ؟ وقد قال كثير من العلماء بأنهما من باب العتق . والقولان في المذهب . وقال بعضهم الكتابة غدر ومخالفة لقياس الأصول . فالأصل فيها الحظر ، والأمر إذا صدر بعد الحظر فهو محمول على الإباحة . وفي هذا القول ضعف لأنا لا نعلم قط {[10123]} أن الكتابة محظورة ثم أبيحت . واختلف هل للسيد أن يجبر عبده على الكتابة إن لم يتبع ذلك منه على قولين منصوصين في المذهب . ومن حجة القول بسقوط الجبر أن الله تعالى إنما أمر بالكتابة إذا ابتغاها العبد ، فدليل هذا أنه إذا لم يبتغها لم ينبغ أن يكره عليها . واختلف في الخير المذكور في الآية ما هو ؟ فقيل المال {[10124]} ولم ير من قال هذا أن يكاتب العبد إلا إذا علم أن له مالا يؤدي منه أو من اتجر فيه .
وروي عن ابن عمر وسلمان {[10125]} أنهما أبيا من كتابة عبدين رغبا في الكتابة ووعدا باسترقاق الناس . فقال كل واحد منهما لعبده : أتريد أن تطعمني أوساخ الناس . وقيل هو الصلاح في الدين ، وإليه ذهب عبيدة السلماني {[10126]} . وقيل هو القوة على الأداء وهو قول مالك ، وهو أظهر الأقوال {[10127]} وقد اختلفت الرواية عن مالك في كتابة الصغير فأجازه في قول وكرهه في آخر إلا أن يفوت بالأداء . وعلى اختلاف قوله في إسلام المراهق يختلف في كتابته . ومذهب الشافعي أن الكتابة لا تصح إلا من البالغ العاقل . والأظهر من القولين المنع على قول مالك ، ومذهبه في أن الخير القوة على الأداء وذلك في الأغلب معدوم في الصغار . واختلف أيضا قوله في كتابة الأمة التي لا صنعة لها ، وبجوازه قال الشافعي ، وهو ظاهر الآية إذا كانت لها قوة على الأداء بخدمة أو غيرها وبه قال ابن المنذر واحتج بحديث بريرة {[10128]} وإنما منع من ذلك من منع لما روي من حديث عثمان رضي الله تعالى عنه أنه قال : لا تكلف الأمة الكسب فإنها تكسب بفرجها . واختلف في حال المكاتب إذا كوتب ، فقيل هو عبد ما بقي عليه {[10129]} درهم ، وهو قول جمهور الناس . وقيل هو عبد حتى يؤدي نصف الكتابة ، فإذا أداها فهو حر . وروي عن عمر وعلي بن أبي طالب . وقيل هو عبد حتى يؤدي ثلث كتابته وروي عن ابن مسعود وشريح . وقيل إذا أدى ربع الكتابة فهو حر . وقيل إذا أدى قيمته فهو حر {[10130]} ، وروي عن ابن مسعود . وقيل إذا أدى ربع قيمته فهو حر ، وروي عن ابن مسعود أيضا . وقيل إذا أدى عتق منه بقدر ما أدى ، وقيل هو حر بعقد الكتابة ويلزمه الأداء {[10131]} والقول الأول أظهر الأقوال على مفهوم الآية لأنه تعالى أمر بالكتابة وهو أن يؤخذ منه مال على أن يعتق ، فهذا أمر مفهوم أنه لا يتم إلا بالوفاء بشروطه .
وقوله تعالى : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } هذا أمر بأن يعان المكاتب على مكاتبته . واختلف في هذا الأمر لمن هو ؟ فقيل للناس أجمعين وهو مذهب النخعي والحسن وبريرة وقيل لولاة الأمور ، وهو قول زيد بن أسلم . والأمر على هذين القولين أمر ندب . وقيل بل الخطاب لسادة المكاتبين ، واختلف الذين ذهبوا إلى هذا هل هو أمر إيجاب أو أمر ندب . ففي المذهب أنه أمر ندب {[10132]} فلا يحكم على السيد به . وعند الشافعي أنه واجب يحكم به على السيد وعلى ورثته {[10133]} . والقول الأول أظهر لتكون الآية متشاكلة فيكون أولها ندبا وآخرها ندبا ، فكما لا تجب على السيد الكتابة لا يجب عليه الوضع . وقد رد إسماعيل القاضي على الشافعي فقال : كيف تكون الكتابة ندبا والإيتاء واجبا ؟ وكيف يكون الأصل ندبا والفرع واجبا ؟ قال أبو الحسن هذا غير واجب ألا ترى أن النكاح غير واجب وإذا نكح الرجل وجب عليه أشياء بنسبة ذلك {[10134]} .
وقوله تعالى : { وآتوهم } :
معناه أعطوهم . فقال بعضهم إنه يعطيهم السادة من أموالهم من غير الكتابة ما يستعين به المكاتبون من غير أن يوضع عنهم من الكتابة شيء . وقيل معناه الحط من الكتابة . وقيل معناه أن يعطوا من الزكاة لقوله تعالى : { وآتوهم من مال الله } {[10135]} والأظهر من إطلاق هذا اللفظ أنه الزكاة وإن كانت الأموال كلها يجوز أن يطلق عليها هذا اللفظ . ومال الكتابة لما وجب لحق الله تعالى ولغرض الحرية حسن أن يقال فيه مال الله {[10136]} فاللفظ محتمل لهذه الوجوه . وأكثر العلماء حملوه على الحط من الكتابة ، ثم اختلفوا في قدر ما يوضع منها . فروي عن علي أنه استحب ربع الكتابة . قال الزهراوي {[10137]} وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن راهويه {[10138]} مثل ذلك قال : ويجبر عليه وتلا الآية . قال وأجمع أهل التأويل على أنه ربع . وروي عن ابن مسعود والحسن أنهما استحسنا الثلث . وروي عن قتادة العشر . وروي عن بعضهم أنه كان يختار أن يوضع على المكاتب آخر نجومه . وقيل يوضع عنه من كتابته شيء ولم يحد . وهو قول ابن جبير والثوري والشافعي : قال الشافعي : والشيء أقل ما يقع عليه اسم شيء ويجبر عليه . وإلى نحو هذا ذهب مالك في ترك الحد فيه إلا أنه لا يرى الجبر عليه كما قدمنا {[10139]} . والحجة لعدم الحد في ذلك قوله تعالى : { وآتوهم من مال الله } ولم يحد . فدل أن ذلك موكول إلى الاجتهاد . واختلف هل يكون الوضع في أول الكتابة أو آخرها ؟ فرأى عمر أن يكون ذلك من أول النجوم مبادرة إلى الخير خوف ألا يدرك آخرها . ورأى مالك وغيره أن يكون الوضع في آخر نجم وهو قول عبد الله بن عمر ولم يحد في هذا قوم أول الكتابة من آخرها تعلقا بظاهر الآية {[10140]} واعلم أن الكتابة لفظ شرعي ولم تكن قبل ورود الشرع على ما هي في الشرع . لأن الشرع جعلها على وجه المخصوص وقيدها بشروط مخصوصة ، فهي كلفظ الصلاة والصيام في الشرع . ومن أهل العلم من قال تقتضي بلفظها التأجيل فلا تكون إلا مؤجلة . ومنهم من قال لا يعقد {[10141]} ذلك من ظاهر لفظها لأن الشيء قد يكتب ولا تأجيل فيه{[10142]} وقد يكتب مع التأجيل{[10143]} فالظاهر لا يدل على الأجل . فعلى هذا القول تجوز الكتابة حالة . واختلفوا في صورة الكتابة ، فقال بعضهم هي أن يكاتبه على دراهم معلومة فيعتق بالأداء في وقته . وقال بعضهم بل لا بد أن تقول في عقد الكتابة : فإذا أديت إلي فأنت حر . فتجمع بين العقد وبين تعليق الحرية بالصفة لأن عنده أن العقد بين السيد وبينه لا يصح وتعليقه له بهذه الصفة يصح فلا بد من ضم ذلك إليه . ولم يختلفوا في أن الكتابة رخصة لأنا لو خلينا والعقد لكان عقدها باطلا ، لأن من المكاتب إزالة سلكه بملكه . قوله تعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } وروي عن ابن عباس وغيره أن سبب هذه الآية أن عبد الله بن أبي بن سلول كانت له جاريتان إحداهما تسمى معاذة والأخرى مسيكة فكان يكرههما على الزنا ويضربهما عليه ابتغاء العقد عليه والولد . وقيل : كان اسم إحدى الجاريتين زينب والأخرى معاذة ومعاذة هي أم خولة التي جادلت النبي صلى الله عليه وسلم في زوجها . وقيل : إنها كانت أمة واحدة اختلف في اسمها قيل : مسيكة وقيل : معاذة ، فكان عبد الله يأمرها بالزنا والكسب فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين {[10144]} وقوله تعالى : { إن أردن تحصنا } . واختلف إلى ما رجع هذا الشرط . فقيل : لأنه لا يتصور إكراههن إلا إذا لم يردن الزنا ، وهو التحصن ، وأما إذا أردنه فلا يتصور الإكراه{[10145]} .
وقيل : هو متعلق بقوله تعالى قبل هذا : { وأنكحوا الأيامى منكم } وقيل : الشرط ملغى{[10146]} ، والأول أظهر وأحسن . وهذه الآية تدل بإطلاقها على تحريم الإكراه على الزنا وعلى تحريم أخذ العقد وهو المراد بنهيه عليه الصلاة والسلام عن مهر البغي . وفيها دليل أيضا على أن الإكراه يصح في الزنا وعلى أن المكرهة لا إثم عليها من حيث قال : { فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } قوله تعالى : { يسبح له فيها بالغدو والآصال } .
قال الضحاك : الصبح والعصر . وقال ابن عباس : أراد ركعتي الضحى والعصر وأن ركعتي الضحى لفي كتاب الله تعالى وما يغوص عليها الأغواص ، ثم قرأ الآية {[10147]} ، وقد اختلف في هذه الصلاة : فلم يرها قوم وقالوا : إنها بدعة فرووا عن ابن مسعود أنه كان لا يصليها وعن عبد الرحمان بن عوف مثل ذلك . ورووا عن ابن عمر أنه قال فيها : بدعة قال مرة نعمة البدعة . وسئل أنس عنها فقال : الصلوات خمس . ورآها قوم واستحبوها وعليه يدل قول عائشة : ما ترك صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإني لأستحبها وروي عنها أنها قالت : لو نشر أبواي من قبرهما ما تركتهما .
وعليه تدل الآية على تفسير ابن عباس . وجاء عن أبي هريرة أنه قال : أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى وقوم على وتر . وذهب قوم من السلف إلى أنها تصلى في بعض الأيام دون بعض ورووا عن ابن سعيد أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها ، ويدعها حتى نقول لا يصليها وروي عن ابن عباس وابن عمر نحو ذلك{[10148]} . قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم } إلى قوله تعالى : { ليس على الأعمى حرج } .
اختلف في المراد بالذين ملكت أيمانكم . فقيل : المراد بهم النساء من الإماء خاصة وهو قول عبد الرحمن السلمي {[10149]} قال : وسئل الرجال أن يستأذنوا في كل وقت . وذكر بعضهم عن ابن عمر نحوه . وقيل : المراد بها الرجال خاصة وهو المشهور من قول ابن عمر . وقيل : المراد به الرجال والنساء جميعا ، ورجح ذلك الطبري{[10150]} ، وقال أبو الحسن : لا يدخل في هذا العموم العبيد البالغون لأنه يستوي في وجوب الاستئذان عليهم هذه الأوقات الثلاث وغيرها من حيث يحرم عليهم النظر إلى عورة سيدهم وإلى بدن سيدتهم ، لا يدخل في العموم أيضا الأطفال لأن المعنى من ذلك قد حصل من قوله تعالى : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } . وقوله تعالى : { والذين لم يبلغوا الحلم } {[10151]} . يريد الأطفال الذين لم يبلغوا إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة وقوله : { ثلاث مرات } الآية .
أمر تعالى أن لا يدخل من تقدم ذكره ممن يملك ، والأطفال على أهليهم في هذه الأوقات الثلاث حتى يستأذنوا لأن هذه الأوقات مضنة انكشاف العورة ، وهي عند الصباح لأن الناس في ذلك الوقت عراة في مضاجعهم ، وقد ينكشف النائم وقت القائلة – وهي الظهيرة- لأن النهار يظهر فيها إذا علا واشتد حره ، وبعد العشاء لأنه وقت التعري للنوم والتبدل للفراش . وأما في غير هذه الأوقات فالعرف بين الناس فيها التحرز والتحفظ فلا حرج في دخول هذه الصفقة بغير إذن إذ هم طوافون يمضون ويجيؤون ألا يجد الناس بدا من ذلك . قال إسماعيل القاضي ويجزئ منهم التسليم وفي الرد إذن ، ومن يجوز له الدخول بالاستئذان من غير المذكورين .
في هذه الآية ينبغي أن يكون حكمه في هذه الأوقات كما تقدم . واختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ فذهب الأكثر إلى أنها {[10152]} محكمة ، ثم اختلفوا ، فقال بعضهم هي على طريق الندب وهو قول أبي قلابة {[10153]} . وقال أكثرهم هي على طريق الإيجاب ، روي عن الشعبي أنه قال ليست بمنسوخة ، فقيل له إن الناس لا يعملون بها ، قال الله المستعان ، وروي هذا القول عن ابن عباس . وذهب ابن المسيب وابن جبير إلى أنها منسوخة ولم يذكروا ناسخها . وهذا ضعيف ، والأصح أنها محكمة . وروي عن ابن عباس أنه قال : كان العمل بها واجبا إذا كان القوم لا أغلاق لهم ولا ستور ، فلما صارت لهم {[10154]} الأغلاق والستور ترك العمل بها . فإن عاد الأمر إلى ما كان عليه عاد الحكم {[10155]} هذا معنى قوله . فالآية على قوله محكمة إلا أنها إذا كانت لعلة ، فحيث وجدت العلة وجد الحكم ، وإذا زالت العلة زال الحكم . والذي ينبغي أن يقال في هذا إنها محكمة بغير علة كانت ثم أبواب وستور أو لم تكن ، ينبغي أن يستأذن . وفي تخصيص هذه الأوقات الثلاثة – بأنها مظنة الانكشاف – دليل على أنها مظنة النوم ، لأن الانكشاف أكثر ما يكون مع النوم . ودليل على أن النوم في غير هذه الأوقات مثل النوم بعد صلاة الصبح ومثل النوم بعد العصر ومثل النوم بعد المغرب ، وليس كالنوم في الأوقات المذكورة في الآية .