– قوله تعالى : { ويحفظن فروجهن } :
الكلام فيه كالكلام في الآية المتقدمة . إلا أنه اختلف هل يجوز للنساء النظر إلى فرج الحرة إذا ادعى الزوج أن بفرجها عيب ؟ فأجازه سحنون ومنعه مالك وغيره . وحجة من أجازه للضرورة بسبب اتهام المرأة في الإنكار . وأما إن كان العيب ببدن المرأة فلا خلاف أنه يجوز نظر النساء إليها للعلة المذكورة . وأما عورات الصبيان فالنظر إليها مستخف ، وقد أجاز مالك أن يغسل النساء الصبي الأجنبي ابن سبع سنين ونحو ذلك . وقال ابن الجلاب ابن خمس سنين ونحو ذلك . واختلف أصحابنا في غسل الرجل الصبية الأجنبية بنت أربعة أعوام ، وخمس ، فأجازه أشهب ما لم تكن تشتهى ، وهو قول عيسى بن دينار . وقال ابن القاسم لا يغسلها بحال . وقد ذكر البخاري أن أم خالد أتت النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها وعليها قميص أصفر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " سنه " قالت فذهبت ألعب بخاتم النبوة ، فزجرني أبي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دعها " {[10073]} الحديث . ففيه مباشرة الصبية الصغيرة له صلى الله عليه وسلم وذلك كمباشرته هو إياها ولم ينهها ، ولو كان حراما لنهاها كما نهى الحسن على التمرة الساقطة . وفي بعض الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أتى بالحسن بن علي ففرج بين فخذيه وقبل ربيبه ، وقد حمل أمامة {[10074]} على عاتقه في الصلاة . وذكر صاحب البسيط {[10075]} عن بعض أصحاب الشافعي أن النظر إلى فرج المرأة حرام وإن كان ابن يومه ، ورأى {[10076]} تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم كان وراء ثوب .
وقوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } :
هذه الآية تقتضي نهي النساء عن إظهار الزينة عامة . ثم استثنى تعالى من ذلك ظاهر الزينة وهو ما لا بد من النظر إليه ، وذلك المعنى بقوله : { إلا ما ظهر منها } . والنهي أيضا عام في الستر للزينة الباطنة عن جميع الناس إلا من خصص تعالى بالذكر في الآية التي بعد هذه . وقد اختلف السلف في الذي أبيح للمرأة إظهاره بقوله : { إلا ما ظهر منها } ، فقال ابن مسعود هو الثياب . فعلى هذا يلزم المرأة ستر جميع جسدها ولا يجوز أن تظهر منه شيئا لا وجهها ولا كفيها ولا غير ذلك ، وتكون عورة كلها . وقال الحسن وسعيد بن جبير : الثياب والوجه . وقال سعيد بن جبير أيضا والأوزاعي وغيرهما : الثياب والوجه والكفان . وقال ابن عباس وغيرهما : الكحل والسواك والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتح ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس ، وعلى هذا لا يجوز أن تظهر ظهور قدميها {[10077]} وكذلك قال مالك في الصلاة . وقال أبو حنيفة ليس عليها أن تغيب ظهور قدميها في الصلاة ، فعلى قوله ليس ذلك بعورة . وعلى هذا يأتي الخلاف فيما يجوز النظر إليه منها عند الشهادة عليها أو عند سبب يوجب النظر إليها . فعلى قول لا يجوز النظر إلى شيء منها ولا يشهد عليها إلا من يعرف صوتها أو من يعرفه بها من يثقه . وعلى قول يجوز إلى الوجه والكفين وهو قول مالك وأصحابه . وعلى قول إلى الوجه والكفين والقدمين . وعلى قول الوجه واليدين والقدمين ونصف الذراع . وقد جاء {[10078]} حديث في معنى نصف الذراع عن النبي صلى الله عليه وسلم {[10079]} وقد جعل ابن عباس على ما تقدم الخضاب من الزينة الظاهرة . قال شيخنا أبو بكر بن العربي : هو عند مالك من الزينة الباطنة .
وقوله تعالى : { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } :
سبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالخمر سدلنها من ورائهن كما تصنع النبط فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليها ، فأمر الله تعالى بلي الخمر على الجيوب ليستر جميع ما ذكر {[10080]} وقالت عائشة : رحم الله المهاجرات الأول لما نزلت هذه الآية عمدن إلى أكتف المروط فشققنها أخمرة وضربن بها على الجيوب . ودخلت عائشة على حفصة بنت أخيها عبد الرحمن وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها وما هنالك ، فشقته عليها وقالت : إنما يضرب بالكثيف الذي يستر {[10081]} .
وقوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن . . . . } :
المراد بالزينة هنا الزينة الباطنة خاصة ، خلاف ما هي في الآية قبلها ، ولما ذكر تعالى ما أباح من الزينة الظاهرة أن يراه غير ذي محرم ذكر في هذه الآية الأخرى ما أباح رؤيته من الزينة الباطنة لذي محرم وغيرهم ثم ما أباحه تعالى في هذه الآية ليسوا فيه على استواء بل منهم من له من ذلك ما لا يباح لغيره ممن ذكر في الآية . وقد فسر ابن عباس الزينة المذكورة في هذه الآية بما يشترك فيه جميع المذكورين فقال : ليبدين لهؤلاء المذكورين القرطة والقلائد والشروك والسوار ونحوه ثم قال وأما خلخالها ومعضداها ونحوهما فلا تبديه إلا لزوجها . وقد تقدم لابن عباس أن القرطة من الزينة الظاهرة وقد جعلها هنا من الباطنة فانظر ذلك . ثم بدأ بالبعولة وهم الأزواج قال الشاعر :
ففدينا البعولة والبنين {[10082]}
لأن حرمتهم في الكشف عليها أعلى الحرم لأن النظر إلى كل شيء منها مباح له ولا يشاركه أحد في ذلك . ثم ثنى بالآباء وهم من له عليهن ولادة ، وهم دون البعولة فيجوز له النظر إلى كل ما ليس بعورة من بناتهم . ثم ذكر آباء البعولة ثم أبناءهن ثم أبناء البعولة ثم إخوانهن وهم الإخوة . وأكثر ما يكون هذا الجمع للأخ من الصداقة ، ثم من بني الإخوة ثم من بني الأخوات فينبغي أن يكونوا في الكشف دون الآباء على طريق الاستحسان ، وأن تختلف أيضا درجاتهم على حسب القربى . وقد رخص العلماء في تقبيل الرجل كبار الولد وسائر الأهل . فقال مالك رحمه الله تعالى في الذي يقدم من سفره فتلقاه ابنته فتقبله وأخته وأهل بيته ، لا بأس بذلك . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ولده وخاصة فاطمة . وكان أبو بكر يقبل عائشة . وفعل ذلك أكثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . قال إسماعيل القاضي : وهذا إذا كان الولد مأمونا . ويجوز مثل ذلك للولد أن يقبل أمه إذا كان مأمونا ولا يجوز ذلك للأخ ومن دونه فمن ذكر في الآية من ذوي الأرحام ثم قال : { أو نسائهن } فقال بعضهم أراد جميع نساء المؤمنين . وقال بعضهم أراد جميع المؤمنات . فعلى القول الأول تكون الكتابية إذا كانت تحت مؤمن ممن أبيح لها النظرة إلى المؤمنات . وعلى القول الثاني لا تكون . وأما المشركات اللائي لسن من نساء المؤمنين فلا يجوز لهن ذلك لظاهر الآية على القولين . وقد روي عن عمر ما يعضد ذلك أنه كتب إلى عماله أن لا يترك امرأة من نساء أهل الذمة تدخل الحمام مع المسلمات . واحتج بهذه الآية . وفي كتابه لأبي عبيدة بن الجراح {[10083]} أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمام مع نساء المسلمين ، فامنع من ذلك وحل دونه فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة . قال فعند ذلك قام أبو عبيدة فابتهل وقال : أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها سود الله تعالى وجهها يوم تبيض الوجوه {[10084]} ثم قال : { أو ما ملكت أيمانهم } فيدخل في هذا الإماء المؤمنات وغير المؤمنات {[10085]} واختلف في العبيد الذكور البالغين هل هم داخلون تحت العموم فيباح لهم النظر إلى مولاتهم أم لا ؟ فقيل المراد ما ملكت أيمانهن من الولادة الأطفال لا الرجال إلا أن يكون الرجل محرما {[10086]} . قالوا وأن الظاهر يقتضي خلاف ذلك . لكن قياس الشرع يأبى هذا الظاهر . ورجح هذا القول أبو الحسن {[10087]} . وهو ضعيف لمخالفته الظاهر ولأن الطفل قد ذكر بعد ذلك . وقال ابن المسيب لا يغرنكم ظاهر هذه الآية إنما عنى بها الإماء ولم يعن بها العبيد ، وهو قول الشافعي وعطاء ومجاهد {[10088]} وإلى نحو هذا ذهب ابن عبد الحكم فقال : لا يجوز للمكاتب أن يرى شعر سيدته وإن كان وغدا ، ولا يخلو معها في بيت . وذهب ابن عباس في أحد أقواله إلى أن الآية على العموم في الإماء والعبيد وهو الظاهر من مذهب عائشة وأم سلمة {[10089]} فعلى هذا يجوز للعبد أن يرى شعر سيدته وغدا كان أو غير وغد ، وكذلك المكاتب . وإلى نحو هذا ذهب مالك ، إلا أنه اشترط أن يكون وغدا لا منظر له . فهذه ثلاثة أقوال في عبد نفسها . قال إسماعيل القاضي : والقول بأن العبيد داخلون في عموم الآية أعلى . واختلف في عبد زوجها أو عبد الأجنبي هل يدخل عليها ويرى شعرها أم لا على قولين . والمشهور منهما المنع . والحجة لجواز ذلك لعبد الزوج قوله تعالى : { ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم } [ النور : 58 ] . ف { الذين } تقع على الذكور ، والمخاطبة بالآية للأزواج . ومن حجة جواز ذلك لعبد الزوج قراءة من قرأ : { أو ما ملكت أيمانكم } . وكذلك الخلاف في العبد الخصي ، فمنعه مالك منها مرة إلا أن يكون ملكا لها ولا منظر له . وأباحه في القول الآخر إذا كان لها أو لزوجها ، وإن لم يكن وغدا ، ثم أباحه وإن كان لأجنبي ، في قول ثالث {[10090]} .
ثم قال تعالى : { التابعين غير أولي الإربة } :
واختلف المفسرون في تأويل ذلك ، فقال بعضهم هو المغفل . وقال الشعبي هو الذي لا إرب له في النساء . وقال عكرمة المخنث الذي لا يقوم له . وقال بعضهم الشيخ الهرم والخنثى والعنين . وقال عطاء هو الذي يتبعك وهمته بطنه . وقال الحسن هو الأحمق . وقال طاووس هو الأحمق الذي ليس له في النساء حاجة . وهذه الأقوال ينبغي أن تساق على جهة التمثيل لا على أن الآية مقصورة على وجه من تلك الوجوه {[10091]} . والذي ينبغي أن يقال به {[10092]} في الآية أن فيها شرطين في غير ذوي المحارم {[10093]} وهما الاتباع ومعناه أن يتبع لشيء بعطاء على ذلك كالوكيل والمتصرف . والثاني عدم الإربة في الوطء فلا يجوز أن يدخل عليها لغير ضرورة من غير ذوي المحارم إلا من كان فيه هذان الشرطان . ومن لم يكونا فيه فلا يجوز له الدخول عليها . وذهب بعض المفسرين إلى مراعاة الشرط الواحد وهو أن يكون من غير أولي الإربة . وذكر بعضهم شرط الاتباع على ما يعطاه وحده . والأصح ما ذكرته من اعتبار الشرطين . وقد اختلف في دخول الحر الخصي على قولين مرويين عن مالك . والأصح أن لا يجوز دخوله كما ذكرنا إلا أن يجتمع فيه الشرطان . وفي الصحيحين أن مخنثا كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يقال له هيت فقال لعبد الله بن أبي أمية : إن فتح الله عليكم الطائف غدا فاسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بادية ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان . فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك منه : " لا يدخل هذا عليكن " {[10094]} فلم ينكر صلى الله عليه وسلم دخوله قبل ذلك وأنكره حين سمع كلامه ونهى عن دخوله . وقد اختلف الأصوليون في النهي على ما يحمل ابتداء هل هو على التحريم حتى يتبين أن المراد به الكراهة أو على الكراهة حتى يتبين أن المراد به التحريم ؟ وإلى أنه على الكراهية في هذا الحديث ذهب اللخمي .
ثم قال تعالى : { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } :
يريد بالطفل الذين لم يراهقوا ، وبالذين لم يظهروا على عورات النساء {[10095]} على ما قال بعضهم {[10096]} الذين لم يطأوا النساء . وعلى ما قال بعضهم الذين لم يدروا ما عورات النساء {[10097]} . وهذا أحسن وإن كان القولان يرجعان إلى معنى واحد ، فأباح الله تعالى للمذكورين في هذه الآية على اختلاف درجاتهم في الاطلاع على النساء من غير ضرورة واختلف هل يجوز أن يرى الرجل شعر ختنته أم لا على قولين . وسئل عن ذلك سعيد بن جبير فتلا قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن } ثم قال : لا أراها فيهن . واختلف في العم والخال هل تضع المرأة خمارها عندهما أم لا ؟ وكرهه الشعبي وعكرمة واحتج بأنهما لم يذكرا في الآية قالا : لأنهما ينعتانها لأبنائهما . ومن رأى العم والخال من الآباء أجاز ذلك . وذكر إسماعيل القاضي عن الحسن والحسين أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين . قال وأحسب أنهما ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى : { لا جناح عليهن في آبائهن } [ الأحزاب : 55 ] وكان ابن عباس يقول : إن رؤيتهما لهن تحل ويحتج بآية النور {[10098]} .
وقوله تعالى : { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } :
قال الطبري : زعم حضرمي {[10099]} أن امرأة اتخذت برتين من فضة واتخذت جذعا فجعلت ذلك في ساقيها فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجذع فنزلت هذه الآية{[10100]} . وإسماع صوت هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من ابتدائها . ذكره الزجاج {[10101]} .