قوله تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم . . . . } إلى قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم } :
{ من } في هذه {[10057]} الآية يحتمل أن تكون لابتداء الغاية لأن البصر مفتاح القلب ولأجل ذلك خص الأمر بغضه . ويحتمل أن تكون للتبعيض وهو الذي ذهب إليه أكثر المفسرين ، وذلك أن الإنسان لا يملك أول نظرة وإنما يؤمر بالغض فيما بعد ذلك ، فلم يغض إذن بصره جملة إنما غض منه . وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤيد هذا وهو قوله لعلي بن أبي طالب : " لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة " {[10058]}الحديث . وقال جرير بن عبد الله البجلي {[10059]} سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال : " اصرف بصرك " {[10060]} ويحتمل أن تكون { من } لبيان الجنس كأنه قال : غضب ، احتمل أن يريد من يدك أو لسانك أو من كذا أو من كذا وأتى بمن لتبين الجنس المنهي عنه . وكيفما كان فقد حصل بهذه الآية الأمر بغض البصر وحفظ الفرج ولم يبين تعالى الأشياء التي يغض عنها البصر والأشياء التي يغض منها الفرج ، ومعلوم بالعادة أن المراد بها المحرم دون المحلل . والأمر في ذلك على الوجوب . فمن الأشياء التي يجب غض البصر عنها باتفاق العورات وما تخشى الفتنة منه وإن لم تكن عورة كالنظر إلى وجه المرأة ، وقد صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل {[10061]} عن الخثعمية . وما جرت به العادة بأن يكتمه الناس بعضهم عن بعض كالنظر في كتاب الرجل بغير إذن ، وقد ورد فيه نهي ، والنظر إلى ما عدا هذه الأشياء مباح . وقد يباح أيضا النظر إلى الأشياء الممنوعة لوجوه وأمور يقتضيها كالنظر إلى المرأة الشابة والغلام عند الشهادة ونحو ذلك ، وكالنظر إلى العورة في بعض الأحوال وعند بعض العلماء . وقد اختلف إذا أراد نكاح المرأة هل يجوز أن يقتبلها النظر من الكوة ؟ فكره ذلك مالك ولم يبحه ومن حجته عموم هذه الآية ، وحكى عبد الوهاب عن مالك الجواز . وأجاز ذلك ابن وهب وغيره للآثار المروية في ذلك ، من ذلك{[10062]} حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا خطب أحدكم المرأة فقدر على أن يرى منها ما يعجبه فليفعل " قال جابر : فلقد خطبت امرأة من بني سلمة وكنت أتخبأ لها في أصول النخل حتى رأيت منها بعض ما يعجبني ، فخطبتها فزوجتها {[10063]} وقال عليه الصلاة والسلام : " انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " {[10064]} . وإذا قلنا بجواز ذلك . فقال مالك لا ينظر إلا إلى الوجه والكفين . وأجاز بعضهم النظر إلى جميع البدن ما عدا السوأتين وأبا أبو حنيفة النظر إلى ظهور القدمين وذكر بعضهم أن مالك يشترط إذن المرأة في ذلك . وقال الشافعي لا يحتاج إلى إذنها . ومن الناس من منع النظر جملة . واختلف أيضا في النظر إلى ما عدا الفرج من الأمة عند الشراء على قولين : أحدهما : أنه يجوز ، والثاني : أنه لا ينظر منها عند الشراء {[10065]} إلا إلى كفيها ووجهها ، وعموم الآية حجة لهذا القول ، وعلى هذا اختلف فيما تستره الأمة في الصلاة من جسدها ، فقيل هي كالرجل عورتها من السرة إلى الركبة خاصة وقيل هي كالحرة في ذلك .
– قوله تعالى : { ويحفظوا فروجهم } :
فيه تأويلان أحدهما : أن يريد ترك الزنا . والثاني : أن يريد ستر العورة . والأحسن في هذا أن يقال إن اللفظ عام لهما فيحمل على عمومه . واختلف في نظر الرجل إلى فرج زوجته وأمته ونظر المرأة إلى فرج زوجها وسيدها . ففي المذهب الجواز ، وللشافعي قولان : أحدهما أنه لا يجوز ومن حجته عموم الآية . وحجة القول الأول أن الآية إنما وردت في النظر إلى ما حرم على الرجل وأما ما أحل له – وإن كان عورة – فلا . وبهذه الآية حرم {[10066]} العلماء دخول الحمام بغير مئزر أو بمئزر مع من يدخله بغير مئزر . وأما دخوله للرجال – إذا لم يدخله أحد منهم إلا بمئزر – ففيه قولان . الجواز ، وروي عن مالك في جامع العتبية أنه قال : لا بأس بذلك ولا حرج فيه . والكراهة ، وروي عن مالك في الوضوء في العتبية أنه سئل عن الغسل بالماء السخن من الحمام فقال : والله ما دخوله عندي بصواب فكيف يغسل بذلك الماء ؟ . فوجه الجواز أن العورة فيه مستورة فليس ثم ما يؤمر الإنسان بغض البصر عنه . ووجه الكراهة مخافة التطلع على العورة . وأما دخول النساء مستترات الحمام فاختلف فيه . ففي المختصر منعهن إياه جملة . وقيل يمنعن إلا لعلة من مرض أو غسل من حيض أو نفاس أو شدة برد وما أشبه ذلك . إنما منعهن ذلك لما لم يكن ثم حمامات منفردة ، فأما اليوم مع إفرادهن فلا يمنعن . ويأتي على هذا القول الاختلاف في دخولهن بالجواز والكراهة بأنهن في ذلك بمنزلة الرجال فيتحصل فيهن أربعة أقوال . ووجه الجواز أنهن مستترات . فارتفع موضع النهي بقوله تعالى : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } . وقوله تعالى : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } أمر للنساء بغض البصر كما أمر الرجال به . والكلام في هذه الآية كالكلام في الآية التي قبلها {[10067]} . إلا أنه اختلف هل بدن المرأة عورة مستورة عن المرأة كما هو عن الرجل أم لا ؟ فذهب عبد الوهاب إلى أنه كذلك ، وعلى هذا يتركب القول بمنعهن دخول الحمام . وذهب غيره إلى أنه ليس كذلك وأنه يجوز للمرأة أن تنظر من المرأة إلى ما لا يجوز للرجل أن ينظر من الرجل بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب " {[10068]} . وإذا كان كذلك فليست المرأة مأمورة بغض البصر عن بدن المرأة وإنما هي مأمورة بالغض عن عورتها والرجل مأمور بالغض عن بدن المرأة لأنها عورة له . فعلى هذا ينبغي أن تحمل الآيتان . وقد اختلف في العيب إذا كان بالحرة في غير الفرج هل يبقر عنه الثوب فينظر إليه الرجال أو ينظر إليه النساء ، على قولين . حجة المنع ظاهر قوله تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } واختلف أيضا في بدن الرجل هل هو عورة على المرأة أم لا على قولين . فعلى القول بأنه عورة فالآية مشتملة على أمرهن بغض البصر عنه . وأما بدن الرجل على الرجل فليس بعورة ولذلك لم يقل أحد بمنعهم من الحمام إذا دخلوه بالمئزر . وأما رؤية المرأة الرجال من غير نظر إلى عورة فمباح كما قلنا في نظر الرجال إلى النساء إلا أن يخاف الفتنة عليهن . والدليل على ذلك حديث عائشة في نظرها إلى الحبشة وهم يلعبون بالحراب بالمسجد ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس {[10069]} : " اعتري عند ابن أم مكتوم {[10070]} فإنه رجل أعمى تضعين عنده ثيابك " {[10071]} إلا أنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يعارض ذلك ويدل على أنه لا يجوز نظر المرأة إلى الرجل . وهو حديث أم سلمة قالت : كنت أنا وعائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخل ابن أم مكتوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " احتجبا منه " فقلنا إنه أعمى . فقال : " أفعمياوان أنتما " {[10072]} وقد تأوله قوم على أنه مخصوص في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة .