– وقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما . . . } إلى قوله تعالى : { إن الله يحب المقسطين } :
اختلف في سبب الآية ، فقيل سببها ما وقع بين بعض المسلمين وبين المتحزبين منهم مع عبد الله بن أبي بن سلول حين مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه ، فقال عبد الله بن أبي لما غشيه حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تغبر علينا ، ولقد آذانا نتن حمارك . فرد عليه عبد الله بن رواحة الحديث بحاله ، فتلاحى الناس حتى وقع بينهم ضرب بالجريد وقيل بالحديد وهو قول الجمهور {[10524]} وقيل سببها {[10525]} أن فرقتين من الأنصار وقع بينهما قتال فأصلحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جهد ونزلت الآية وهو قول الحسن وغيره . وقيل سببها أنه كان بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر وكان لها زوج من غيرهم وقع بينهم شيء أوجب أن ثاب لها قومها وله قومه فوقع قتال بينهم فنزلت الآية {[10526]} . وقد أمر الله تعالى في هذه الآية بقتال الفئة الباغية ، ومن هذا الباب النهوض في الفتن بين المسلمين وقد اختلف العلماء فيه . فذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز النهوض في شيء منها وأن على الإنسان أن يستسلم إلى القتل وإن أريدت نفسه ولا يدافع عنها واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : " ستكون فتن ، القائم فيها خير من القاعد والقاعد فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ، من أشرف لها استشرفته ، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به " {[10527]} وبأمره عليه الصلاة والسلام بكسر السيوف في الفتن ولزوم البيوت ، وبقوله عليه الصلاة والسلام : " قتل المؤمن كفر " {[10528]} ومن ذهب إلى هذا من الصحابة حذيفة ومحمد بن مسلمة وأبو ذر وسعد بن أبي وقاص وغيرهم . وذهبت طائفة إلى مثل هذا إلا أنهم قالوا إن دخل داخل على بعض من اعتزل الفريقين منزله يريد نفسه فعليه دفعه عن نفسه وإن قتله . روي ذلك عن عبيدة السلماني {[10529]} وعمران بن حصين {[10530]} وابن عمر أيضا ، واحتجوا بمثل ما تقدم . غير أنهم احتجوا بإباحة الدفع عن أنفسهم بقوله عليه الصلاة والسلام : " من قاتل دون ماله ونفسه فقتل فهو شهيد " {[10531]} . وذهبت طائفة إلى النهوض فيها والأخذ على أيدي الطائفة المخطئة وقصر المصيبة عليها ، قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالأخذ على يد الظالم فقال : " لتأخذن على {[10532]} يد الظالم تأطروه على الحق إطراء أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم " {[10533]} قالوا ولا يصح أن تكون الطائفتان جميعا مصيبتين بل تكون إحداهما مصيبة والأخرى مخطئة فيجب نصر المصيبة . وهذا مروي عن علي وطلحة وعائشة وعمار بن ياسر . وروي عن عمر أنه قال : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت أني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله تعالى : وقال بعضهم : القول بنصر الطائفة المصيبة أصح لقوله تعالى : { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } وبالآية احتج جماعة من أهل العلم . فهذا نص في وجوب قتال الفئة الباغية ، فلا معنى لقول من رأى القعود عن قتالها . وقد احتج بعضهم في ذلك أيضا بقتال أبي بكر رضي الله تعالى عنه مانعي الزكاة . قال : ولو كان ذلك لما أقيم لله تعالى حق ولا أبطل باطل . والكلام في هذه المسألة يتغلغل إلى أكثر من ذلك فلتقف عند هذا على شرطنا في الاختصار . وقال عليه الصلاة والسلام : " حكم الله في الفئة الباغية أن لا يجهز على جريح ولا يطلب هارب ولا يقتل أسير " {[10534]} . وإذا قيل بالنهوض في الفتن ونصر أهل الحق فمع أي طائفة يكون الناهض ؟ أمع السواد الأعظم أو مع علمائهم أو مع من يرى أن الحق معه ؟ في ذلك اختلاف . فذهبت جماعة إلى لزوم السواد الأعظم ورأوا أنه الحق الواجب والفرض الثابت وأن من خالفهم فهم الفئة الباغية . وإلى نحو هذا ذهب ابن مسعود ، ومن حجتهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة {[10535]} . وذهب قوم إلى لزوم جماعة العلماء ، قالوا : وذلك أن الله تعالى جعلهم حجة على خلقه وإليهم تفزع العامة في دينها وهم تبع لهم وهم المعنيون بقوله : " لن تجتمع أمتي على ضلالة " {[10536]} . والذي يأتي على فرض القول بقتال الفئة الباغية أن يكون الإنسان في الفتنة مع من يرى أن الحق معه ، وعليه يدل ظاهر قوله تعالى : { فإن بغت إحداهما على الأخرى } إذ لم يخص كثيرا من قليل ولا العلماء من غيرهم ، فإنما اعتبر في ذلك البغي ، فحيث اعتقده الإنسان زال عنه وحيث لم يره كان فيه . واختلف العلماء في أهل مكة إذا بغوا على أهل العدل ، فذهب بعض الفقهاء {[10537]} إلى تحريم قتالهم مع بغيهم وأنه يضيق عليهم حتى يرجعوا عن البغي ويدخلوا في أحكام أهل العدل ، فاستثنوا أهل مكة من عموم الآية . والذي عليه أكثر الفقهاء أنهم يقاتلون على بغيهم إذا لم يكن ردهم عن البغي إلا بقتال لأن قتال أهل البغي من حقوق الله تعالى التي لا يجوز أن تضاع ، وكونها محفوظة في حرمة أولى من أن تكون مضافة فيه . وحملوا الآية على عمومها في أهل مكة وغيرهم {[10538]} .