قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا } الآية إلى قوله تعالى : { وبئس المصير } :
هذه الآية تقتضي ألا يفر المسلمون من الكفار قل عددهم أو كثر دون مراعاة ضعف . وأن الفرار محظور لأنه تعالى قد نهى عنه ثم توعد عليه ولا معنى للمحظور إلا ذلك . ثم إن الله تعالى أراد أن {[8582]} يخفف عن عباده فحد {[8583]} في قدر العدد الذي لا يجوز لهم الفرار منه حدا . فقال تعالى : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا } [ الأنفال : 65 ] فجعل لهم أن لا يفروا من عشرة أمثالهم . واختلف العلماء في هذا هل هو نسخ أو تخصيص عموم . فقيل هو منسوخ وقد كان أولا واجبا أن لا يفر أحد عن العدو ثم نسخ بهذا {[8584]} . وقال قوم لم يكن قط واجبا أن يثبت المسلمون لأكثر من عشرة أمثالهم وإنما خرجت الآية مخرج العموم فخصصت بهذه الآية ثم خفف الله تعالى تخفيفا آخر فقال : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله } [ الأنفال : 66 ] .
واختلف أيضا في هذا هل هو نسخ أم لا . فقال ابن عباس هو نسخ . وروي عنه أيضا أنه قال : فرض على المسلمين أن يقاتل الرجل منهم {[8585]} العشرة من المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى التخفيف . قال بعضهم فهو تخفيف على هذا لا نسخ ، ونظير هذا إفطار الصائم في السفر {[8586]} وإذا قلنا إنه نسخ فوجهه أنه تعالى قد حرم بقوله : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } الآية الفرار من العشرة أضعاف ثم قال تعالى : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } فأحل الفرار من ذلك القدر . هذا وإن لم تعطه الآية بنصها فإن مقتضاها يعطي ذلك ومقتضى هذه الآية الثانية أنه تعالى لم يبح الفرار من الضعف . ولا خلاف أن هذا الحكم كان ثابتا يوم بدر وإنما اختلفوا في تحريم الفرار بعد يوم بدر . فقيل كان ذلك خاصا بيوم بدر {[8587]} كان فيه الفرار من الكبائر فأما ما عدا ذلك{[8588]} اليوم فالفرار منه غير محرم وليس من الكبائر . وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله تعالى عنهم وقال فيهم يوم حنين : { ثم وليتم مدبرين } [ التوبة : 25 ] ولم يقع على ذلك تعنيف . وعلى هذا القول تكون الإشارة بقوله تعالى : " يومئذ " إلى " يوم بدر " وهو قول الحسن وقتادة والضحاك {[8589]} وذهب الجمهور إلى أن ذلك المعنى من الآية محكم باق إلى يوم القيامة وأن الفرار من الزحف من الكبائر ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يؤيد هذا فقال : " اتقوا السبع الموبقات " {[8590]} وعد فيها الفرار من الزحف . وإلى هذا يذهب مالك وجميع أصحابه وقد {[8591]} قال ابن القاسم {[8592]} لا تجوز شهادة من فر يوم الزحف . وتكون الإشارة بقوله " يومئذ " {[8593]} إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله تعالى { إذا لقيتم } وهذا الاختلاف الذي ذكرناه في الفرار من الزحف هل هو كبيرة أم لا إنما هو في الفرار من الضعف . فأما الفرار مما زاد عن الضعف فغير كبيرة باتفاق وقد قال قوم إن قوله تعالى : { فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره } الآية عام محكم في الأزمان لا يختص بيوم بدر ولا غيره .
وفي العدد لا يختص بعدد دون عدد وذكره النحاس {[8594]} عن عطاء بن أبي رباح . وقال أبو بكر بن العربي {[8595]} رحمه الله تعالى هو الصحيح لأنه ظاهر القرآن والحديث{[8596]} وقال بعض من قال باعتبار العدد في ثبوت الواحد للإثنين خاصة هذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثنتي عشر ألفا . فأما إذا بلغوا اثنتي عشر ألفا فلا يجوز لهم الفرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن يغلب اثني عشر ألفا من قلة " فخصص هذا العدد بهذا الحديث من عموم الآية وينسب هذا القول لمحمد بن الحسن {[8597]} وروي عن مالك ما يدل على ذلك في مذهبه وهو قوله للعمري العابد إذ سأله هل له سعة {[8598]} في ترك مجاهدة من غيًّر الأحكام{[8599]} : إن كان معك اثنا عشر ألفا فليس لك ذلك {[8600]} . وهذا الاستدلال ضعيف إذ ليس في الحديث ما يدل على أنه لا يجوز الفرار من أكثر من الضعف لأن الحديث لا يعطي{[8601]} بيان حكم شرعي وإنما هو بيان لحكم العرف{[8602]} . وإذا لم يكن ذلك فكيف يخصص به عموم الآية . وقد اختلف العلماء في تأويل الضعف الذي ذكره الله تعالى فقيل : هو في العدد ، فيلزم المسلمين أن يثبتوا لمثلي عددهم وإن كانوا أشد منهم سلاحا وأظهر قوة وهو قول لجمهور العلماء . وقيل : هو في الجلد والقوة ويلزم المسلمين أن يثبتوا لأكثر من الضعف إذا كان {[8603]} المسلمون أشد منهم سلاحا وأكثر منهم قوة ولا يلزمهم أن يثبتوا لهم . وإن كانوا أقل من الضعف إذا كان المشركون أشد منهم سلاحا وأكثر منهم قوة {[8604]} وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك{[8605]} .
والقول الأول أظهر لأن الله تعالى إنما ذكر الضعف في العدد فمن أراد أن يتأوله على القوة كان مخرجا للآية عن ظاهرها بغير دليل . والتحرف للقتال أن يظهر هربا وهو منه مكيدة ليكر ونحو ذلك . والتحيز إلى فئة اتفقوا على أنها الجماعة من الناس الحاضرة في الحرب . واختلفوا في المدينة والإمام والجماعة إذا لم يكن شيء من ذلك حاضرا في الحرب هل التحيز إليه تحيزا إلى فئة أم لا . ويروى عن عمر رضي الله عنه إباحة ذلك وأنه تحيز إلى فئة والظاهر أن ذلك ليس بتحيز إلى فئة ، بل هو فرار تام ولا يجوز الفرار وإن فر الإمام لقوله تعالى : { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال } فعم ولم يخص . واختلف في الرجل يكون في صف المسلمين يريد أن يحمل على الجيش والعدو وحده محتسبا بنفسه . فمنهم من أجازه واستحسنه ومنهم من كرهه ويروى عن عمرو بن العاص وإليه ذهب مالك في ظاهر قوله واحتج بقوله تعالى : { الآن خفف الله عنكم } وبقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } {[8606]} وقد قاس ابن شبرمة {[8607]} الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن الآية فجعل تغيير المعاصي كتغيير الكفر وقال : لا يحل للرجل أن يفر من اثنين إذا كانا على منكر وله أن يفر من أكثر منهما وإن أدى تغيير المنكر إلى أن يتقابل الصفان . فقد اختلف العلماء فيه ، فمنهم من قال : لا بد من إذن الإمام ، وقال آخرون : لا يحتاج إلى استئذان الإمام لأنه يخاف فوات التغيير هذا إذا كان المنكر من آحاد الناس . وأما إن كان من الوالي فلا يجوز تغييره بالقتال والخروج ، والصبر عليه جائز لما في ذلك من إثارة الفتن .