قوله تعالى : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } :
اختلف هل هو منسوخ أم محكم ، والذين ذهبوا إلى أنه منسوخ {[8778]} اختلفوا في ناسخه وقال ابن زيد وغيره {[8779]} نسخها آية القتال من قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] ، قالوا ونسخت براءة كل موادعة حتى يقول لا إله إلا الله . وقال ابن عباس نسخها قوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون } [ محمد : 35 ] .
والذين ذهبوا إلى أنها غير منسوخة قالوا : أما آية القتال فليست بناسخة وإنما يعني بها من لا تجوز مصالحته مثل مشركي قريش ويعني بقوله تعالى : { وإن جنحوا للسلم } من تجوز مصالحته وإن كان قوله تعالى : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } عاما في مشركي العرب وغيرهم بآية براءة مخصصة له ولا معنى لدخول النسخ في هذا . وأما قول ابن عباس فضعيف لأن الآيتين ليس بينهما تعارض {[8780]} . وعلى الاختلاف في هذه الآية اختلفوا في جواز مهادنة الكفار . فلم يجز ذلك طائفة ورأوا الآية منسوخة ، وقالوا إنما هو القتال أو الإسلام أو الجزية . وأجازته طائفة أخرى وإن كان على ما يؤديه المسلمون إليهم واحتجوا بالآية ولم يروها منسوخة ، وبما روي أنه عليه الصلاة والسلام قد كان {[8781]} صالح عيينة بن حصن وغيره يوم الأحزاب على نصف ثمار المدينة حتى لما شاور الأنصار قالوا : يا رسول الله أهو أمر أمرك الله تعالى به أم الرأي والمكيدة . قال : " لا بل هو رأي لما رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أدفعه عنكم إلى يوم " . فقال السعدان : سعد بن عبادة {[8782]} وسعد بن معاذ {[8783]} : والله يا رسول الله إنهم لم يطمعوا فيها منا إلا بشراء أو قرى ونحن كفار فكيف وقد أعزنا الله تعالى بالإسلام ولا نعطيهم إلا بالسيف ، وشق الصحيفة {[8784]} وأجازته طائفة على غير مال يؤديه المسلمون إليهم وأما بمال فلا يجوز ، وهو أحد أقوال الشافعي وبه يقول الأوزاعي . وهذا الخلاف عندي إنما هو ما لم يخف على المسلمين أن يصطلحوا . فأما إذا خيف ذلك فجائز مصالحتهم على مال وعلى غير مال . فأما على أن يؤخذ من الكفار فلا خلاف في جوازه وسيأتي الكلام عليه . وإنما الخلاف إذا كان على أن لا يأخذ منهم شيئا أو على أن يعطيهم شيئا ، وهذا كله مع الذين يجوزون أخذ الجزية منهم . فأما من لا يجوز أخذ الجزية منهم باتفاق ككفار قريش فلا خلاف أنه لا تجوز مصالحتهم كيف كانت والذين ذهبوا إلى جواز الصلح في المسألة التي ذكرناها اختلفوا في المدة التي تجوز مصالحتهم إليها . فقيل لا يجوز أن يصالحوا أكثر من عشر سنين وما وراء هذا محظور ، وهو قول الشافعي . قيل لا يجوز أكثر من أربع سنين{[8785]} . وقيل لا يجوز أكثر من ثلاث سنين {[8786]} وهذه الثلاثة الأقوال مبنية على الاختلاف في المدة التي هادن عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية . وقيل تجوز مهادنتهم إلى مدة قصيرة أو طويلة على حسب ما يعطيه الاجتهاد والنظر في مصلحة المسلمين ، ونحو هذا حكى ابن حبيب عن مالك فقال تجوز مهادنتهم السنة والسنتين والثلاث وإلى غير مدة {[8787]} . وهذا القول أليق بظاهر الآية إذا قلنا بأنها محكمة . واختلفوا هل يعقد الهدنة غير الإمام أم لا يعقدها إلا الإمام . والجمهور على أنه لا يعقدها إلا الإمام . وذهب الطبري إلى أنه يجوز أن يعقد بغير إذن الإمام . والدليل على فساد هذا القول أن هذا من مصالح المسلمين فلا بد من نظر الإمام فيه وقد قال تعالى : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } الآية ، فلم يخاطب بذلك إلا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقصر تعالى الخطاب عليه إلا من أجل أن ذلك ليس لغيره وأن يعلم أن النظر في ذلك إنما هو للأئمة .