وفي كلّ الأحوالرفض يعقوب إرسال ابنه بنيامين معهم ،ولكنّه كان يواجه إصرار أولاده بمنطقهم القوي بحيث اضطرّ إلى التنازل على مطلبهم ولم يَر بدّاً من القبول ،ولكنّه وافق بشرط: ( قال لن أرسله معكم حتّى تؤتون موثقاً من الله لتأتنّني به إلاّ أن يحاط بكم ) ،والمقصود من قوله ( موثقاً من الله ) هو العهد واليمين المتضمّن لاسم الله سبحانه وتعالى ،وأمّا جملة ( إلاّ أن يحاط بكم ) فهي في الواقع بمعنىإلاّ إذا أحاطت بكم وغلبتكم الحوادث ،ولعلّها إشارة إلى حوادث الموت أو غيرها من الحوادث والمصائب التي تسلب قدرة الإنسان وتقصم ظهره وتجعله عاجزاً .
وذكر هذا الاستثناء دليل بارز على ذكاء نبي الله يعقوب وفطنته ،فإنّه برغم حبّه الشديد لولده بنيامين لكنّه لم يحمل أولاده بما لا يطيقوا وقال لهم: إنّكم مسؤولون عن سلامة ولدي العزيز وأنّي سوف أطلبه منكم إلاّ أن تغلبكم الحوادث القاهرة ،فحينئذ لا حرج عليكم .
وعلى كلّ حال فقد وافق اُخوة يوسف بدورهم على شرط أبيهم ،وحينما أعطوه العهد والمواثيق المغلّظة قال يعقوب: ( فلمّا أتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل ) .
بحوث
1بالنسبة للآيات السابقة فإنّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن ،هو أنّه كيف وافق يعقوب على سفر بنيامين مع إخوته برغم ما أظهروه في المرّة السابقة من سوء المعاملة مع يوسف ،إضافة إلى هذا فإنّنا نعلم أنّهم كانوا يبطنون الحقد والحسد لبنيامينوإن كان أخفّ من حقدهم وحسدهم على يوسفحيث وردت في الآيات الإفتتاحية لهذه السورة قوله تعالى: ( إذ قالوا ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا ونحن عصبة ) أي أنّ يوسف وأخاه أحبّ إلى أبينا برغم ما نملكه نحن من قوّة وكثرة .
لكن تظهر الإجابة على هذا السؤال إذا لاحظنا أنّه قد مضى ثلاثون إلى أربعين سنة على حادثة يوسف ،وقد صار إخوة يوسف الشبّان كهولا ،ومن الطبيعي أنّهم نضجوا أكثر من السابق ،كما وقفوا على الآثار السلبية والسيّئة لما فعلوه مع يوسف ،سواء في داخل أُسرتهم أم في وجدانهم ،حيث أثبتت لهم تجارب السنين السالفة أنّ فقد يوسف كان لا يزيد حبّ أبيهم لهم ،بل ازداد نفوره منهم وخلق لهم مشاكل جديدة .
إضافةً إلى هذه الأُمور فإنّ يعقوب لم يواجه طلباً للخروج إلى التنزّه والصيد ،بل كان يواجه مشكلة مستعصية مستفحلة ،وهي إعداد الطعام لعائلة كبيرة وفي سنوات القحط والمجاعة .
فمجموع هذه الأُمور أجبرت يعقوب على الرضوخ لطلب أولاده والموافقة على سفر بنيامين ولكنّه أخذ منهم العهود والمواثيق على أن يرجعوه سالماً .
2السؤال الآخر الذي نواجهه هنا هو أنّه هل الحلف وأخذ العهد والمواثيق منهم كان كافياً لكي يوافق يعقوب على سفر بنيامين معهم ؟
الجواب: أنّه من الطبيعي أنّ مجرّد الحلف واليمين لم يكن كافياً لذلك ،ولكن في هذه المرّة كانت الشواهد والقرائن تدلّ على أنّ هناك حقيقة واضحة قد برزت إلى الوجود ،وهي خالية عن محاولات الخداع والتضليل ( كما هو الحال في المرّة السابقة ) ففي مثل هذه الصورة لا سبيل لتأكيد هذه الحقيقة وجعلها أقرب إلى التنفيذ سوى العهد واليمين ،مثل ما نشاهده في هذه الأيّام من تحليف الزعماء السياسيين كرئيس الجمهورية أو نوّاب البرلمان ،حيث يحلفون بالوفاء للدستور والعمل على طبقه وذلك بعد أن انتخبهم الشعب من خلال انتخابات حرّة ونزيهة .