التّفسير
اليوم الذي تشخّص فيه الأبصار !
كان الحديث في الآيات السابقة عن يوم الحساب ،وبهذه المناسبة تجسّم هذه الآيات حال الظالمين والمتجبّرين في ذلك اليوم ،ثمّ تبيّن المسائل المتعلّقة بالمعاد وتكمل الحديث السابق حول التوحيد وتبدأ في تهديد الظالمين: ( ولا تحسبنّ الله غافلا عمّا يعمل الظالمون ) .
وهذا في الواقع جواب لأولئك الذين يقولون: إذا كان لهذا العالم إله عادل فلماذا يترك الظالمين وحالهم ؟هل هو غافل عنهم أم لا يستطيع أن يمنعهم وهو يعلم بظلمهم ؟
فيجيب القرآن الكريم على ذلك بأنّ الله ليس غافلا عنهم أبداً ،لأنّ عدم عقابهم مباشرةً هو أنّ هذا العالم محلّ الامتحان والاختبار وتربية الناس ،وهذا لا يتمّ إلاّ في ظلّ الحرية ،وسوف يأتي يوم حسابهم ( إنّما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتدّ إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ) .
«تشخص » من مادّة «الشخوص » بمعنى توقّف العين عن الحركة والنظر إلى نقطة بدهشة .
«مهطعين » من مادّة «إهطاع » بمعنى رفع الرقبة ،ويعتقد البعض أنّها بمعنى «السرعة » وقال آخرون: تعني «النظر بذلّة وخشوع » .ولكن بالنظر إلى الجمل الأُخرى يكون المعنى الأوّل أقرب إلى الصحّة .
«مقنعي » من مادّة «الإقناع » بمعنى رفع الرأس عالياً .
ومفهوم جملة ( لا يرتدّ إليهم طرفهم ) لا يقدرون على أن يطرفوا من شدّة الهول ،وكأنّ أعينهم كأعين الأموات عاطلة عن العمل !
وجملة ( أفئدتهم هواء ) بمعنى قلوبهم خالية ومضطربة بحيث ينسون كلّ شيء حتّى أنفسهم وفقدت قلوبهم وأنفسهم كلّ إدراك وعلم ،وفقدوا كلّ قواهم .
إنّ بيان هذه الصفات الخمس: تشخص الأبصار ،مهطعين ،مقنعي رؤوسهم ،لا يرتدّ إليهم طرفهم ،وأفئدتهم هواء ،صورة بليغة لهول وشدّة ذلك اليوم على الظالمين الذين كانوا يستهزئون بكلّ شيء ،وأصبحوا في هذا اليوم لا يستطيعون حتّى تحريك أجفان أعينهم .
ولكي لا يشاهدوا هذه المناظر المفجعة ينظرون إلى الأعلى فقط ،فهؤلاء كانوا يعتقدون بكمال عقولهم ويعدّون الآخرين من الحمقى ،فأصبحوا اليوم مدهوشين لدرجة أنّ نظرهم نظر المجانين .بل الأموات نظر جاف عديم الروح ومليء بالرعب والفزع ..
نعم ،عندما يريد القرآن الكريم أن يصوّر منظراً أو يجسّم موقفاً يستخدم أقصر العبارات في أكمل بيان كما في الآية أعلاه .
/خ45