وتبيّن الآية التالية أحد الأدلّة الواضحة على نفي آلهة وأرباب المشركين ،فتقول: ( لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا فسبحان الله ربّ العرش عمّا يصفون ) .
هذه الإدّعاءات غير الصحيحة وهذه الأرباب المصنوعة والآلهة المظنونة ليست إلاّ أوهاماً ،وساحة كبرياء ذاته المقدّسة لا تتلوّث بهذه النسب المغلوطة .
برهان التمانع:
إنّ الدليل الوارد في الآية آنفة الذكر ولإثبات التوحيد ونفي الآلهة ،في الوقت الذي هو بسيط وواضح ،فإنّه من البراهين الفلسفيّة الدقيقة في هذا الباب ،ويذكره العلماء تحت عنوان ( برهان التمانع ) .ويمكن إيضاح خلاصة هذا البرهان بما يلي:
إنّنا نرىبدون شكّنظاماً واحداً حاكماً في هذا العالم ،ذلك النظام المتناسق من جميع جهاته ،فقوانينه ثابتة تجري في الأرض والسّماء ،ومناهجه متطابقة بعضها مع بعضها ،وأجزاؤه متناسبة .
إنّ انسجام القوانين وأنظمة الخلقة هذا يحكي أنّها تنبع من عين واحدة ،لأنّ البدايات إن كانت متعدّدة ،والإرادات مختلفة ،لم يكن يوجد هذا الانسجام مطلقاً ،وهذا الشيء الذي يعبّر عنه القرآن ب ( الفساد ) يلاحظ في العالم بوضوح .
إذا كنّا من أهل التحقيق والمطالعةولو قليلافإنّا نستطيع أن نفهم جيداً من خلال تحقيق كتاب ما ،أنّ كاتبه شخص واحد أم عدّة أشخاص ؟فإنّ الكتاب الذي يؤلّفه شخص واحد يوجد انسجام خاص بين عباراته ،ترتيب جمله ،تعبيراته المختلفة ،كناياته وإشاراته ،عناوينه ورؤوس مطالبه ،طريقة الدخول في البحوث والخروج منها ،والخلاصة: إنّ كلّ أقسامه متحدّة متناسقة لأنّها وليدة فكر واحد ،وترشّح قلم واحد .
أمّا إذا تعهّد شخصان أو عدّة أشخاص بأن يؤلّف كلّ منهم جزءاً منالكتابوإن كان الجميع علماء متقاربين في الروح والتفكيرفستظهر آثار هذه الازدواجية أو الكثرة في العبارات والألفاظ ،وطريقة الأبحاث .وسبب ذلك واضح ،لأنّ الفردين مهما كانا منسجمين في الفكر والذوق ،فإنّهما في النتيجة فردان ،فلو كانت كلّ أشيائهما واحدة لأصبحا فرداً واحداً ،فبناء على هذا فيجب أن يكون هناك تفاوت فيما بينهما قطعاً ليتمكّنا أن يكونا فردين ،وهذا الاختلاف سيؤثّر أثره في النتيجة ،وسيُبدي آثاره في كتاباتهما .
وكلّما كان هذا الكتاب أكبر وأكثر تفصيلا ،ويبحث مواضيع متنوّعة ،فإنّ عدم الانسجام يُلمس فيه أوضح .وكتاب عالم الخلقة الكبير ،الذي نضيّع بكلّ وجودنا في طيّات عباراته لعظمته يشمله هذا القانون أيضاً .
حقّاً إنّنا لا نستطيع مطالعة كلّ هذا الكتاب حتّى لو صرفنا كلّ عمرنا في مطالعته ،إلاّ أنّ هذا القدر الذي وُفّقنا نحنوجميع العلماءلمطالعته منسجم إلى الحدّ الذي يدلّ تماماً على وحدة مؤلّفه ..إنّنا كلّما تصفّحنا هذا الكتاب العجيب فستظهر بين كلماته وسطوره وصفحاته آثار تنظيم عال وانسجام منقطع النظير .فإذا كانت هناك إرادات وبدايات متعدّدة تتدخّل في إدارة هذا العالم وتنظيمه ،فهل كان بالإمكان أن يوجد مثل هذا الانسجام ؟
ولو فكّرنا: لماذا يستطيع علماء الفضاء أن يرسلوا السفن الفضائية إلى الفضاء بدقّة كاملة ،وينزلوا العربة على القمر في المحلّ الذي قدروه من الناحية العلمية بدقّة متناهية ،ثمّ يحرّكونها من هناك وينزلونها إلى الأرض في المحل الذي توقّعوه ؟
ألم تكن هذه الدقّة في الحسابات لكون النظام الحاكم على كلّ الوجود الذي هو أساس حسابات هؤلاء العلماءدقيقاً ومنسجماً ،بحيث إذا كان هناك شيء من عدم الانسجامومن الناحية الزمنيّة جزء من مائة من الثّانيةفستضطرب جميع حساباتهم ؟
ونقول باختصار: إذا كانت هناك إرادتان أو عدّة إرادات حاكمة في العالم ،فإنّ لكلّ واحدة قضاء ،وكانت الأخرى تمحو أثر الأُولى ،وسيؤول العالم إلى الفساد عندئذ .
سؤال:
وهنا يُثار سؤال يمكن استلهام جوابه من التوضيحات السابقة ،وهو: إنّ تعدّد الآلهة يكون منشأ للفساد عندما يحارب أحدها الآخر ،أمّا إذا اعتقدنا بأنّ هؤلاء أفراد حكماء عالمون ،فإنّهم يتعاونون فيما بينهم ويديرون العالم .
وجواب هذا السؤال لا لَبْسَ فيه: فإنّ كونهم حكماء لا يزيل تعدّدهم ،فعندما نقول: إنّهم متعدّدون ،فإنّ معناه إنّهم ليسوا متحدّين من جميع الجهات ،لأنّهم إن اتّحدوا من كلّ الجوانب أصبحوا إلهاً واحداً ،وبناءً على ذلك فأينما وجد التعدّد وجد الاختلاف الذي يؤثّر في الإدارة والعمل شئنا أم أبينا ،وهذا سيجرّ عالم الوجود إلى الهرج والمرج .
وقد استُنِد في بعض هذه الاستدلالات إلى أنّه لو كان هناك إرادتان حاكمتان على الخلق ،لما كان هناك عالم أصلا .في حين أنّ هذه الآية تتحدّث عن فساد العالم واختلال النظام ،لا عن عدم وجود العالم .
ومن اللطيف أن نقرأ في حديث يرويه هشام بن الحكم عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) في جواب الرجل الملحد الذي كان يتحدّث عن تعدّد الآلهة ،أنّه قال: «لا يخلو قولك أنّهما اثنان من أن يكونا قويين أو يكونا ضعيفين ،أو يكون أحدهما قويّاً والآخر ضعيفاً ،فإن كانا قويّين فلِمَ لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه وينفرد بالتدبير ،وإن زعمت أنّ أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنّه واحد كما تقول ،للعجز الظاهر في الثّاني ،وإن قلت: إنّهما اثنان ،لا يخلو من أن يكونا متّفقين من كلّ جهة أو متفرّقين من كلّ جهة ،فلمّا رأينا الخلق منتظماً ،والفلك جارياً ،واختلاف الليل والنهار ،والشمس والقمر ،دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر أنّ المدبّر واحد .
ثمّ يلزمك إن ادّعيت اثنين فلابدّ من فرجة بينهما حتّى يكونا اثنين ،فصارت الفرجة ثالثاً بينهما قديماً معهما فيلزمك ثلاثة ،فإن ادّعيت ثلاثة لزمك ما قلنا في الاثنين حتّى يكون بينهما فرجتان فيكون خمساً ،ثمّ يتناهى في العدد إلى مالا نهاية في الكثرة »{[2494]} .
إنّ بداية هذا الحديث إشارة إلى برهان التمانع ،ونهايته إشارة إلى برهان آخر يسمّى ب ( برهان الفرجة ) .
وفي حديث آخر: إنّ هشام بن الحكم سأل الإمام الصادق ( عليه السلام ): ما الدليل على أنّ الله واحد ؟قال: «اتّصال التدبير ،وتمام الصنع ،كما قال الله عزّ وجلّ: لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا »{[2495]} .