نعم ،إنّ الإنسان الضعيف المحدود سوف يطغى بمجرّد أن يشعر بقليل من القدرة والقوة ،وأحياناً بدافع من جهله ،فيتوهم أنّه يصارع الله جلّ وعلا !!
لكن ما أسهل أن يبدل الله عوامل حياته إلى موت ودمار ،كما تخبرنا الآية عن مآل قوم عاد: ( فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحيوة الدنيا ) .
إنّ هذه الريح الصرصر ،وكما تصرح بذلك آيات اُخرى ،كانت تقتلعهم من الأرض بقوّة ثمّ ترطمهم بها ،بحيث أصبحوا كأعجاز النخل الخاوية .( يلاحظ الوصف في سورة «القمر » الآية 1920 وسورة الحاقة الآية 6 فما بعد ) .
لقد استمرت هذه الريح سبع ليال وثمانية أيّام ،وحطّمت كيانهم وكل وسائل عيشهم ،نكالا بما ركبوا من حماقة وعلو وغرور ،ولم يبق منهم سوى أطلال تلك القصور العظيمة ،وآثار تلك الحياة المرفهة .
هذا في الدنيا ،وهناك في الآخرة: ( ولعذاب الآخرة أخزى ) .
إنّ العذاب الأخروي هو في الواقع كالشرارة في مقابل بحر لجي من النّار .
والأنكى من ذلك أن ليس هناك من ينصرهم: ( وهم لا ينصرون ) .
فبعد عمر من الجد والعمل في سبيل التظاهر بالعظمة والعلو ،يصيبهم الله تعالى بعذاب أذلهم في هذه الدنيا ،وفي العالم الآخر ينتظرهم ما هو أشد و أصعب !
«صرصر »: على وزن ( دفتر ) مشتقّة في الأصل من كلمة «صُرّ » على وزن «شرّ » وتعني الغلق بإحكام ،لذا تستعمل كلمة «صرّه » للكيس الذي يحتوي على المال وهو مغلق بشكل جيّد .ثمّ أطلقت على الرياح الباردة جداً ،أو التي فيها صوت عال ،أو الرياح المسمومة القاتلة .وقد تكون الرياح العجيبة التي شملت قوم «عاد » تحمل كلّ هذه الصفات جميعاً .
( أيّام نحسات ) تعني الأيام المشؤومة التي اعتبرها البعض بأنّها الأيّام المليئة بالتراب والغبار ،أو الأيّام الباردة جداً ،وهذه المعاني يمكن أن تكون مرادة من الآيات التي نحن بصددها .
لقد أشار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب( عليه السلام ) في خطب نهج البلاغة إلى قصة عاد ،كي تكون درساً أخلاقياً تربوياً يتعظ منه الآخرون .يقول( عليه السلام ): «واتعظوا فيها بالذين قالوا: من أشدّ منّا قوّة ؟حملوا إلى قبورهم ،فلا يدعون ركباناً ،وأنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفاناً ،وجعل لهم من الصفيح أجنان ،ومن التراب أكفان ،ومن الرفات جيران »{[4008]} .
ملاحظتان
أوّلا: ما هي وسيلة فناء قوم عاد ؟
وفقاً للآية ( 13 ) من هذه السورة ،فإنّ قوم عاد وثمود أهلكوا بالصاعقة .في حين أنّ الآيات التي نبحثها تقول: إنّهم أبيدوا بالريح الصرصر العاتية ،فهل هناك تعارض بين الاثنين ؟
في الجواب ذكر المفسّرون وعلماء اللغة معنيين للصاعقة ،أحدهما عام ،والآخر خاص .
فالصاعقة بمعناها العام تعني أي شيء يهلك الإنسان ،وهي كما يقول العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان: «المهلكة من كلّ شيء » .
أمّا المعنى الخاص ،فالصاعقة شرارة عظيمة من النّار تنزل من السماء ،وتحرق كلّ ما يوجد في طريقها ،كما وضحنا ذلك آنفاً .
بناءً على هذا ،لو كانت الصاعقة بالمعنى الأوّل فلا تعارض بينها وبين الرياح القوية .
يقول الراغب في المفردات: «قال بعض أهل اللغة: الصاعقة على ثلاثة أوجه: الموت كقوله: ( فصعق من في السموات ومن في الأرض ) وقوله: ( فأخذتهم الصاعقة )والعذاب كقوله: ( أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود )والنّار كقوله: ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) وما ذكره فهو أشياء حاصلة من الصاعقة فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجوّ ،ثمّ يكون منه نار فقط أو عذاب أو موت وهي في ذاتها شيء واحد وهذه الأشياء تأثيرات منها » .
وثمة احتمال آخر ،هو أن قوم عاد قد شملهم نوعان من العذاب: الأوّل الرياح الشديدة التي دمّرت كلّ شيء والتي سلطها الله عليهم أيّاماً عديدة ،ثم جاء بعد ذلك دور الصاعقة النّارية المميتة التي شملتهم بأمر الله .
لكن المعنى الأوّل يبدو أكثر تناسباً مع الموضوع ،خصوصاً إذا لاحظنا الآيات الأُخرى التي تتحدث عن عقاب قوم عاد وهلاكهم .( راجع الآيات في سورة الذارياتآية41 ،وسورة الحاقةآية6 ،والقمر الآيتان «18 » و«19 » ) .
ثانياً: أيام قوم عاد النحسة
البعض يعتقد أنّ أيّام السنة نوعان: أيّام نحسة مشؤومة ،وأيام سعيدة مباركة .ويستدلون على ذلك بالآيات أعلاه ،فيقولون: هناك تأثيرات مجهولة تؤثر في الليالي والأيّام ،ونشعر نحن بآثار ذلك ،بينما أسبابها ما تزال مبهمة بالنسبة لنا .
وقال البعض: إنّ الأيام النحسة في الآية التي نبحثها هي الأيّام المملوءة بالتراب والغبار .
وقوم عاد قد أصيبوا بمثل هذه الرياح الشديدة بحيث باتوا لا يرى أحدهم الآخر ،كما تفيد ذلك الآيتان ( 2425 ) من سورة «الأحقاف » في قوله تعالى: ( فلّما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ،تدمّر كلّ شيء بأمر ربّها فأصبحوا لا يرى إلاّ مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ) .
وسوف نقوم ببحث مفصل حول مفهوم الأيّام النحسة والأيّام السعيدة ،في نهاية حديثنا عن الآية ( 19 ) من سورة القمر ،إن شاء الله تعالى .