التّفسير
لستم بأقوى من قوم عاد أبداً:
إنّ هذه الآيات بمثابة استنتاج للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن عقاب قوم عاد الأليم ،فتخاطب مشركي مكّة وتقول: ( ولقد مكّناهم فيما إن مكّناكم فيه ){[4413]} فقد كانوا أقوى منكم من الناحية الجسمية ،وأقدر منكم من ناحية المال والثروة والإمكانات المادية ،فإذا كان بإمكان القوّة الجسمية والمال والثروة والتطور المادي أن تنقذ أحداً من قبضة الجزاء الإلهي ،فكان ينبغي على قوم عاد أن يصمدوا أمام العاصفة ولا يكونوا كالقشة في مهب الرياح ،تتقاذفهم كيف شاءت ولا يبقى من آثارهم إلاّ أطلال مساكنهم !
إنّ هذه الآية شبيهة بما ورد في سورة الفجر في شأن قوم عاد: ( ألم تر كيف فعل ربّك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ){[4414]} .
أو هي نظير ما جاء في الآية ( 36 ) من سورة ق: ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشدّ منهم بطشاً ) .
وخلاصة القول: إنّ الذين كانوا أشدّ منكم وأقوى ،عجزوا عن الوقوف أمام عاصفة العذاب الإلهي ،فكيف بكم إذن ؟
ثمّ تضيف الآية: ( وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة ){[4415]} فقد كانوا أقوياء في مجال إدراك الحقائق وتشخيصها أيضاً ،وكانوا يدركون الأُمور جيداً ،وكانوا يستغلون هذه المواهب الإلهية من أجل تأمين حاجاتهم ومآربهم المادية على أحسن وجه ،لكن: ( فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله ){[4416]} وأخيراً: ( وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) .
نعم ،لقد كان أولئك مجهزين بالوسائل المادية ،وبوسائل إدراك الحقيقة ،إلاّ أنّهم لما كانوا يتعاملون مع آيات الله بمنطق الاستكبار والعناد ،وكانوا يتلقون كلام الأنبياء بالسخرية والاستهزاء ،لم ينفذ نور الحق إلى قلوبهم ،وهذا الكبر والغرور والعداء للحق هو الذي أدى إلى أن لا يستفيدوا ولا يستخدموا وسائل الهداية والمعرفة كالعين والأذن والعقل ،ليجدوا طريق النجاة ويسلكوه ،فكانت عاقبتهم أن ابتلوا بذلك المصير المشؤوم الذي أشارت إليه الآيات السابقة .
فإذا كان أُولئك القوم قد عجزوا عن القيام بأي عمل مع كلّ تلك القدرات والإمكانيات التي كانوا يمتلكونها ،وأصبحت جثثهم الهامدة كالريشة في مهب الرياح تتقاذفهم من كلّ جانب بكلّ مذلة واحتقار ،أولى لكم أن تعتبروا إذ أنتم أضعف منهم وأعجز .
وليس عسيراً على الله تعالى أن يأخذكم بأشد العذاب نتيجة أعمالكم وجرائمكم ،وأن يجعل عوامل حياتكم أسباب فنائكم ،وهذا خطاب لمشركي مكّة ،ولكلّ البشر المغرورين الظالمين العتاة على مر التأريخ ،وفي كلّ الأعصار والأمصار .
وحقاً فإنّ الأمر كما يقول القرآن الكريم ،فلسنا أوّل من وطأ الأرض ،فقد كان قبلنا أقوام كثيرون يعيشون فيها ،ولديهم الكثير من الإمكانيات والقدرات ،فكم هو جميل أن نجعل تأريخ أُولئك مرآة لأنفسنا لنعتبر به ،ولنرى من خلاله مستقبلنا ومصيرنا .