/م123
في البداية يقول: إنّ فرعوناً قال للسحرة: هل آمنتم بموسى قبل أن آذن لكم ( قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ) ؟!
وكأنّ التغيير ب «به » لأجل تحقير موسى والازدراء به ،وكأنّه بجملة «قبل أن آذن لكم » أراد أن يظهر أنّه يتحرى الحقيقة ويطلب الحق ،فلو كان عمل موسى( عليه السلام ) يتسم بالحقيقة والواقعية لأذنت أنا للناس بأن يؤمنوا به ،ولكن استعجالكم كشفت عن زيفكم ،وأنّ هناك مؤامرة مبيّنة ضد شعب مصر .
وعلى أية حال ،أفادت الجملة أعلاه أنّ فرعون الجبار الغارق في جنون السلطة كان يدعي أن لا يحق للشعب أن يتصرف أو يعمل أو يقول شيئاً من دون إجازته وإذنه ،بل لا يحق لهم أن يفكروا ويؤمنوا بدون أمره وإذنه أيضاً !!
وهذه هي أعلى درجات الاستعباد والاستحمار ،أن يكون شعبٌ من الشعوب أسيراً وعبداً بحيث لا يحق له حتى التفكير والإِيمان القلبي بأحد أو بعقيدة .
وهذا هو البرنامج الذي يواصله «الاستعمار الجديد » ،يعني أنّ المستعمرين لا يكتفون بالاستعمار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ،بل يسعون إلى تقوية جذورهم عن طريق الاستعمار الفكري .
وتتجلى مظاهر هذا الاستعباد الفكري في البلاد الشيوعية أكثر فأكثر ،بالحدود المغلقة ،والأسوار الحديدية والرقابة الشديدة المفروضة على كل شيء ،وبخاصّة على الأجهزة الثقافية .
ولكن في البلاد الرأسمالية الغربية التي يظن البعض أنّه لا يوجد استعباد فكري وثقافي على الأقل وأن لكل أحد أن يفكر ويختار بحرية ؛يمارس الاستعباد بنحو آخر ،لأنّ الرأسماليين الكبار بتسلّطهم الكامل على الصحف المهمّة ،والإذاعات ،ومحطات التلفزيون ،وجميع سبل الارتباط الجمعي ووسائل الإِعلام ،يفرضون على المجتمع أفكارهم وآراءهم في لباس الحرية الفكرية ،ويوجهون المجتمععن طريق عملية غسيل دماغ واسعة ومستمرةإلى الوجهة التي يريدون ،وهذا بلاء عظيم يعاني منه عصرنا الحاضر .
ثمّ يضيف فرعون قائلا ( إن هذا لمكرٌ مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها ) .
ونظراً إلى الآية ( 71 ) من سورة «طه » التي تقول ( إنّه لكبيركم الذي علمكم السحر ) يتّضح أنّ مراد فرعون هو أنّ هناك مؤامرة مدروسة وتواطؤاً مبيّتاً قد دبرتموه قبل مدّة للسيطرة على أوضاع مصر واستلام زمام السلطة ،لا أنّكم دبرتموه للتو وقبل قليل في لقاء محتمل بينكم وبين موسى .
ومن هنا يتّضح أنّ المراد من «المدينة » هو مجموع القطر المصري ،والألف واللام ألف ولام الجنس ،والمراد من «لتخرجوا منها أهلها » هو تسلط موسى( عليه السلام ) وبني إسرائيل على أوضاع مصر ،وإقصاء حاشية فرعون وأعوانه عن جميع المناصب الحساسة ،أو إبعاد بعضهم إلى النقاط البعيدة من البلاد ،والآية ( 110 ) في هذه السورة شاهدة على ذلك أيضاً .
وعلى كل حال ،فإنّ هذه التهمة كانت خاوية ومفضوحة ،إلى درجة أنّه لم يكن يقتنع بها إلاّ العوام والجهلة من الناس ،لأنّ موسى( عليه السلام ) لم يكن حاضراً في مصر ،ولم يلتق بأحد من السحرة من قبل ،ولو كان أستاذهم وكبيرهم الذي علمهم السحر ،لوجب أن يكون معروفاً ومشهوراً في جميع الأماكن ،وأن يعرفُه أكثر الناس ،وهذه لم تكن أُموراً يمكن إخفاؤها وكتمانها ،لأنّ التواطؤ مع أشخاص المنتشرين في شتى مناطق مصر على أمر بهذا القدر من الأهمية غير ممكن عملا .
ثمّ إنّ فرعون هدَّدهم بتهديد غامض ولكنّه شديد ومحكم ،إذ قال: ( فسوف تعلمون ) !!