/م61
المفردات:
استفزز: هيّج واستخف .
بصوتك: بدعائك إلى معصية الله .
وأجلب عليهم: أي: صح عليهم من الجبلة وهي الصياح ،يقال: أجلب على العدو إجلابا ؛إذا جمع عليه الخيول .
بخيلك ورجلك: أي: بأعوانك من راكب وراجل .
الغرور: تزيين الباطل بما يظن أنه حق .
التفسير:
64-{واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ...}
وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول ،فهي المعركة الصاخبة ،يستخدم فيها الصوت فيزعج الخصوم ،ويخرجهم من مراكزهم الحصينة ،أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة ،فإذا استدرجوا أخذتهم الخيل وأحاطت بهم الرجال .
قال النيسابوري: ( عن ابن عباس: كل راكب وراجل في معصية الله فهو من خيل لإبليس وجنوده .وقيل يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضها راكب وبعضها راجل ){[428]} والأقرب أن هذا كلام ورد تمثيلا فقد يقال للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك .
قال المراغي: ليس للشيطان خيل ولا رجالة ،وإنما يراد بهما: الأتباع والأعوان من غير ملاحظة ؛لكون بعضهم ماشيا وبعضهم راكبا{[429]} .
وقال الزمخشري في الكشاف: مثلت حاله في تسلطه على من يغويه ،بمغوار أوقع على قوم ،فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ،ويقلقهم عن مراكزهم ،وأجلب عليهم بجند من خيالة ورجالة .
{وشاركهم في الأموال} ؛بحثهم على كسبها من غير السبل المشروعة وإنفاقها في غير الطرق التي أباحها الدين ،ويشمل ذلك الربا والغضب والسرقة ،وسائر المعاملات الفاسدة .
وقال الحسن: مرهم أن يكسبوها من خبيث ،وينفقوها في حرام .
{والأولاد} أي: بالتفاخر والتكاثر بهم ،وتضليلهم بصبغهم بغير صبغة الدين ،أو تربيتهم لا كما ينبغي ؛حتى ينشئوا غير راشدين ولا مؤدبين ولا متدينين بدين الحق{[430]} .
وإجمال القول فيه ،إن كل مولود ولدته أنثى عصى الله فيه ،بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه ،أو بالزنا بأمه ،أو بوأده ،أو بقتله ،أو غير ذلك ؛فقد شارك إبليس فيه:
{وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} .كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص .والوعد بالغنى من الأسباب الحرام والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل الملتوية والأساليب الخسيسة .
ولعل أشد الوعود إغراء: الوعد بالعفو ،والمغفرة بعد الذنب والخطيئة ،وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب ،التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة ،فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة ،ويزين لها الخطيئة ،وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية ،وشمول العفو والمغفرة .
وذهب القاشاني إلى: أن الآية تشير إلى انقسام الناس مع الشيطان إلى أصناف فقال: تمكن الشيطان من إغواء العباد على أقسام ؛لأن الاستعدادات متفاوتة ،فمن كان ضعيف الاستعداد استفزه .أي: استخفه بصوته ،يكفيه وسوسة وهمس بل هاجس ولمة ،ومن كان قوي الاستعداد ،فإن أخلص استعداده عن شوائب الصفات الإنسانية ،أو أخلصه لله تعالى عن شوائب الغيرية ،فليس إلى إغوائه سبيل كما قال سبحانه:{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} ،وإلا فإن كان منغمسا في الشواغل الخسيسة غارزا رأسه في الأمور الدنيوية ،شاركه في أمواله وأولاده ،بأن يحرضه على إشراكهم بالله في المحبة ،بحبهم كحب الله ،ويسول له التمتع بهم ،والتكاثر والتفاخر بوجودهم ،ويمنيه الأماني الكاذبة ،ويزين عليه الآمال الفارغة ،وإن لم ينغمس ،فإن كان عالما بصيرا بحيله ،أجلب عليه بخيله ،ورجله ،أي: مكر به بأنواع الحيل ،وكاده بصنوف الفتن ،وأفتى له في تحصيل أنواع الحطام ،والملاذ ،بأنها من جملة مصالح المعاش ،وغره بالعلم وحمله على الإعجاب ،وأمثال ذلك ؛حتى يصير ممن أضله الله على علم ،وإن لم يكن عالما بل عابدا منكسا ،أغواه بالوعد والتمنية ،وغره بالطاعة والتزكية أيسر ما يكون{[431]} .