قوله تعالى:{وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} .
الدين هنا: الطاعة ؛ومنه سميت أوامر الله ونواهيه ديناً ؛كقوله:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} [ آل عمران:19] ،وقوله:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً} [ المائدة:3] ،وقوله:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [ آل عمران: 85] .
والمراد بالدين في الآيات: طاعة الله بامتثال جميع الأوامر ،واجتناب جميع النواهي .ومن الدين بمعنى الطاعة: قول عمرو بن كلثوم في معلقته:
وأياماً لنا غراً كراما*** عصينا الملك فيها أن ندينا
أي عصيناه وامتنعنا أن ندين له ؛أي نطيعه .وقوله{وَاصِبًا} أي دائماً ؛أي له جلَّ وعلا: الطاعة والذل والخضوع دائماً ؛لأنه لا يضعف سلطانه ،ولا يعزل عن سلطانه ،ولا يموت ولا يغلب ،ولا يتغير له حال بخلاف ملوك الدنيا ؛فإن الواحد منهم يكون مطاعاً له السلطنة والحكم ،والناس يخافونه ويطعمون فيما عنده برهة من الزمن ،ثم يعزل أو يموت ،أو يذل بعد عز ،ويتضع بعد رفعة ؛فيبقى لا طاعة له ولا يعبأ به أحد .فسبحان من لم يتخذ ولداً ،ولم يكن له شريك في الملك ،ولم يكن له ولي من الذل ،وكبره تكبيراً .
وهذا المعنى الذي أشار إليه مفهوم الآية بينه جل وعلا في مواضع أخر ؛كقوله:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} [ آل عمران:26] ،وقوله تعالى:{خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} [ الواقعة:3] ؛لأنها ترفع أقواماً كانت منزلتهم منخفضة في الدنيا ،وتخفض أقواماً كانوا ملوكاً في الدنيا ،لهم المكانة الرفيعةوقوله:{لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [ غافر: 16] .
ونظير هذه الآية المذكورة قوله:{وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِب ٍدُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} [ الصافات: 8-9] أي دائم .وقيل: عذاب «وجمع مؤلم » والعرب تطلق الوصب على المرض ،وتطلق الوصوب على الدوام .وروي عن ابن عباس أنه لما سأله نافع بن الأزرق عن قوله تعالى:{وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} قال له: الوصب الدائم ،واستشهد له بقول أمية بن أبي الصلت الثقفي:
وله الدين واصباً وله المل ***ك وحمد له على كل حال
ومنه قول الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه*** يوماً بذم الدهر أجمع واصباً
وممن قال بأن معنى الواصب في هذه الآية الدائم: ابن عباس ومجاهد ،وعكرمة وميمون بن مهران ،والسدي وقتادة ،والحسن والضحاك ،وغيرهم .وروي عن ابن عباس أيضاً واصباً: أي واجباً .وعن مجاهد أيضاً: واصباً: أي خالصاً .وعلى قول مجاهد هذا ،فالخبر بمعنى الإنشاء .أي ارهبوا أن تشركوا بي شيئاً ،وأخلصوا لي الطاعةوعليه فالآية كقوله:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [ آل عمران:83] ،وقوله:{أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [ الزمر:3] ،وقوله:{وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [ البينة:5] ،وقوله: «واصباً » حال عمل فيه الظرف .
وقوله تعالى:{أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} [ 52] .
أنكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة على من يتقي غيره ؛لأنه لا ينبغي أن يتقي إلا من بيده النفع كله والضر كله ؛لأن غيره لا يستطيع أن ينفعك بشيء لم يرده الله لك ،ولا يستطيع أن يضرك بشيء لم يكتبه الله عليك .