قوله تعالى:{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ والأرض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} .
قوله تعالى:{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ والأرض} تقدم تفسيره في أول سورة فاطر .
وقوله{جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} .
أي خلق لكم أزواجاً من أنفسكم كما قدمنا الكلام عليه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} [ النحل: 72] وبينا أن المراد بالأزواج الإناث كما يوضحه قوله تعالى:{وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [ الروم: 21] الآية .وقوله تعالى:{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأنثى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [ النجم: 45 -46] وقوله:{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأنثى} [ القيامة: 39] وقوله تعالى:{والليل إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى} [ الليل: 1 -3] .وقوله في آدم:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [ النساء: 1] الآية .وقوله تعالى فيه أيضاً:{هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [ الأعراف: 189] الآية .وقوله تعالى فيه أيضاً:{خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [ الزمر: 6] الآية .
وقوله تعالى:{وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً} هي الثمانية المذكورة في قوله تعالى:{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} .وفي قوله:{خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [ الزمر: 6] وهي ذكور الضأن والمعز والإبل والبقر وإناثها ،كما قدمنا إيضاحه في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى:{وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [ آل عمران: 14] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} الظاهر أن ضمير الخطاب في قوله{يَذْرَؤُكُمْ} شامل للآدميين والأنعام ،وتغليب الآدميين على الأنعام في ضمير المخاطبين في قوله: يذرؤكم واضح لا إشكال فيه .
والتحقيق إن شاء الله أن الضمير في قوله: «فيه » راجع إلى ما ذكر من الذكور والإناث ،من بني آدم والأنعام في قوله تعالى:{جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً} [ الشورى: 11] سواء قلنا إن المعنى: أنه جعل للآدميين إناثاً من أنفسهم أي من جنسهم ،وجعل للأنعام أيضاً إناثاً كذلك ،أو قلنا إن المراد بالأزواج الذكور والإناث منهما معاً .
وإذا كان ذلك كذلك ،فمعنى الآية الكريمة يذرؤكم أي يخلقكم ويبثكم وينشركم فيه ،أي فيما ذكر من الذكور والإناث ،أي في ضمنه ،عن طريق التناسل كما هو معروف .
ويوضح ذلك في قوله تعالى:{اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} [ النساء: 1] فقوله تعالى:{وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} يوضح معنى قوله:{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} .
فإن قيل: ما وجه إفراد الضمير المجرور في قوله يذرؤكم فيه ،مع أنه على ما ذكرتم ،عائد إلى الذكور والإناث من الآدميين والأنعام ؟
فالجواب: أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن ،رجوع الضمير أو الإشارة بصيغة الإفراد إلى مثنى أو مجموع باعتبار ما ذكر مثلاً .
ومثاله في الضمير:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [ الأنعام: 46] الآية ،فالضمير في قوله: به مفرد مع أنه راجع إلى السمع والأبصار والقلوب .
فقوله:{يَأْتِيكُمْ بِهِ} أي بما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم ،ومن هذا المعنى قول رؤبة بن العجاج:
فيها خطوط من سواد وبلق *** كأن في الجلد توليع البهق
فقوله: كأنه أي ما ذكر من خطوط من سواد وبلق .
ومثاله في الإشارة{لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ} [ البقرة: 68] أي بين ذلك المذكور ،من فارض وبكر ،وقول عبد الله بن الزبعري السهمي: إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل
أي كلا ذلك المذكور من الخير والشر .
وقول من قال ،إن الضمير في قوله فيه راجع إلى الرحم ،وقول من قال راجع إلى البطن ،ومن قال راجع إلى الجعل المفهوم من جعل وقول من قال: راجع إلى التدبير ،ونحو ذلك من الأقوال خلاف الصواب .
والتحقيق إن شاء الله هو ما ذكرنا والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وقد قدمنا الكلام عليه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [ الأعراف: 54] .