الآية التي تليها يمكن أن تكون دليلا خامساً على ولاية الله المطلقة ،أو دليلا على ربوبيته ،واستحقاقه دون غيره للتوكل والإنابة ،إذ تقول: ( فاطر السماوات والأرض ) .
«فاطر » من مادة «فطر » وتعني في الأصل فتق شيء ما ،ويقابلها «قط » التي تعني بقول البعض الشق العرضي .
وكأنّما الآية تشير إلى تفتق ستار العدم المظلم عند خلق الكائنات وخروج الموجودات منه .
وبهذه المناسبة فإنّ «فُطُر » تطلق على «طلاع » التمر عندما يتفتق ويخرج منه التمر .
والمقصود بالسماوات والأرض هنا جميع السماوات والأرض وما فيها من كائنات وما بينها ،لأنّ الخالقية تشملها جميعاً .
ثم تشير الآية إلى وصف آخر من أفعاله تعالى فتقول: ( جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ){[4093]} .
وهذه لوحدها تعتبر إحدى الدلائل الكبيرة على تدبير الله وربوبيته وولايته ،حيث خلق سبحانه وتعالى للناس أزواجاً من أنفسهم ،وهو يعتبر أساساً لراحة الروح وسكون النفس ،ومن جانب آخر يعتبر الزواج أساساً لبقاء النسل واستمراره ،وتكاثره .
وبالرغم من أنّ خطاب الآية موجّه للإنسان ،والمعنى منصب عليه من خلال «يذرؤكم » إلاّ أنّ هذا الأمر هو حكم سائد وسنة جارية في جميع الأنعام والموجودات الحية الأُخرى التي تسري عليها التكاثر بالمثل .
وفي الواقع إنّ توجيه الخطاب للإنسان دونها يشير الى مقامه الكريم ،وأما أمر البقية فيتبيّن من خلال الإنسان كمثال .
الصفة الثّالثة التي تذكرها الآية هو قوله تعالى: ( ليس كمثله شيء ) .
إنّ هذا الجزء من الآية يتضمّن حقيقة أساسية في معرفة صفات الله الأُخرى ،وبدونها لا يمكن التوصّل إلى أي صفة من صفات الله ،لأنّ أكبر منزلق يواجه السائرين في طريق معرفة الله يتمثل في «التشبيه »حيث يشبهون الخالق جلّ وعلا بصفات مخلوقاته ،وهو أمر يؤدي للسقوط في وادي الشرك !
إنّ وجود الله تعالى ليس له نهاية ولا يحد بحد ،وكل شيء غيره له نهاية وحد من حيث القدر والعمر والعلم والحياة والإرادة والفعل ...؛وفي كلّ شيء .
وهذا هو خط تنزيه الخالق من نقائص الممكنات .
لذا فإنّ ما يثبت لغيره لا يصح عليه ( سبحانه وتعالى ) ولا ينطبق على ذاته المنزّهة ،بل ولا معنى له .
فبالنسبة إلينا تكون بعض الأمور سهلة والأُخرى صعبة ،وبعض الأحداث وقع في الماضي وبعضها يقع الآن ،ومنها ما يقع في المستقبل .وبعض الأشياء صغير وبعضها كبير .
إنّ مقاييس هذه الأشياء ومدلولاتها ومفاهيمها تحتكم إلى وجودنا المحدود ،وهي تلائم إدراكنا وحاجتنا إلى مقايسة الأشياء بغيرها .
أمّا هذه المواصفات والمقاييس والمصطلحات المحدودة ،فإنّ أياً منها لا ينطبق على صفات الله ،إذ لا معنى لديه للقرب والبعد ،فالكل قريب وفي متناول إرادته ،ولا معنى للصعب والسهل ،فكل شيء سهل وطوع إرادته المطلقة ،ولا يوجد مستقبل وماض ،فكل شيء بالنسبة إليه تعالى حضور وحال .
إنّ إدراك هذه المعاني غير مستطاع من دون تفريغ الذهن وتخليته ممّا هو فيه .
لهذا السبب يقال: إنّ من السهل معرفة أصل وجود الخالق جلّ وعلا ،لكن من الصعب معرفة صفاته .
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب( عليه السلام ) في هذا الشأن: «وما الجليل واللطيف ،والثقيل والخفيف ،والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء »{[4094]} .
تشير نهاية الآية إلى صفات اُخرى من صفات الله: ( وهو السميع البصير ) .
هو الخالق والمدبّر ،والسميع والبصير ،وفي نفس الوقت ليس له شبيه أو نظير أو مثيلْ ،ولهذا لا ينبغي الإستظلال إلاّ تحت ولايته ،ولا تصح العبودية والربوبية إلاّ له ،وذلك لا يكون ألاّ بفك قيود عبودية الغير ،وتصريفها إليه دون غيره سبحانه وتعالى .
الآية التي بعدها تتحدّث عن ثلاثة أقسام اُخرى من صفات الفعل والذات حيث توضح كلّ واحدة منها قضية الولاية والربوبية في بعد خاص .
/خ12