{ ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاواتِ ولاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ 18}
هذه الآية في دحض شبهتهم على عبادة غير الله تعالى ، وهي الشفاعة ، وتقدم في الآية الثالثة بطلانها ، وإقامة الحجة على وجوب عبادة الرب الخالق المدبر وحده ، وصرح هنا بإسناد هذا الشرك إليهم ، وباحتجاجهم عليه بالشفاعة ، ثم لقن رسوله الحجة على بطلان هذا الاحتجاج ، فقال:
{ ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنفَعُهُمْ} الكلام معطوف على ما قبله من بيان شركهم وسخافتهم فيه ، ومكابرتهم في جحود الحق الذي دعاهم إليه الوحي ، أي ويعبدون ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا من الأصنام وغيرها من دون الله ، أي غير الله ، والمعنى أنهم يعبدونها حال كونهم متجاوزين ما يجب من عبادته وحده ، لا أنهم يعبدونها وحدها ، فما معنى كونهم مشركين إلا أنهم يبعدونه ويعبدون غيره .{ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [ يوسف:106] ، وفي وصفها بأنها لا تضرهم ولا تنفعهم إيذان بسبب عبادتها وضلالهم فيه ، وتذكير بأنه هو القادر على نفع من يعبده ، وضر من يكفره ويشرك بعبادته غيره في الدنيا والآخرة .
وأصل غريزة العبادة الفطرية في البشر في سذاجتهم - التي لا تلقين فيها لحق ولا باطل - هي الشعور الباطن بأن في الوجوه قوة غيبية وسلطانا علويا على التصرف في الخلق بالنفع لمن شاء ، وإيقاع الضر على من شاء ، وكشفه بعد وقوعه عمن شاء ، غير مقيد في ذلك بسبب من الأسباب المسخرة للناس ، فمن اطلع على تواريخ البشر في كل طور من أطوار حياتهم البدوية والحضرية يظهر له أن هذا هو أصل التدين الغريزي فيهم ، وأما صور التعبد وتسمية المعبودات فمنها ما هو من اجتهادهم ، ومنها ما هو من تلقين دعاة الدين فيهم من الأنبياء وغيرهم ، فكل ما عبد من دون الله بالرأي والاجتهاد فإنما عبده من عبده لشبهة فهم منها قدرته على النفع والضر بسلطان له فوق الأسباب ، وقد بينا ذلك في مواضع أخرى ، أولها تفسير العبادة من سورة الفاتحة ، وأوسطها وأبسطها تفسير قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع أبيه آزر من سورة الأنعام ، ومن آخرها في تفسير هذه السورة ما جاء في بيان الركن الأول من أركان الدين ، وفي الكلام على الخوارق من بحث الوحي الاستطرادي .
فليس المراد من كون هذه المعبودات لا تضرهم ولا تنفعهم هو بيان عجزها عن النفع والضر ؛ لأنها إما جمادات مصنوعة - كالأوثان المتخذة من الحجارة أو الخشب ، والأصنام المتخذة من المعادن وكذا الحجارة- أو غير مصنوعة –كاللات ، وهي صخرة كانت بالطائف يلت عليها السويق ثم عظمت حتى عبدت- وإما أشجار - كالعزى معبودة قريش ، والشجرة التي قطعها الشيخ محمد عبد الوهاب في نجد ، وشجرة المنضورة التي يقصدها النساء في مصر لأجل الحبل- فإن أكثر الأوثان والأصنام قد وضعت ذكرى لبعض الصالحين من البشر - كما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه في أصنام قوم نوح- ثم انتقلت عبادتهم إلى العرب ، وكانوا يعتقدون أن فيها أرواحا من الجن - كما روي في حديث قطع شجرة العزى ، أو شجراتها الثلاث- إذ ظهرت عند قطعها لخالد بن الوليد امرأة سوداء عريانة ناشرة شعرها ، كانوا يزعمون أنها جنية ، فأرادت أن تواثبه وتخيفه فقتلها ، فهي كالقبور التي تشرف وتجصص ، ويوضع عليها الستور ، وتبنى عليها القباب لمثل السبب الذي وضعوا له تماثيل الأوثان ، وعبدة هذه القبور يعتقدون أن المدفونين فيها أحياء يقضون حاجات من يدعونهم ويستغيثونهم ، وعلماء الخرافات يقولون لهم:إن عملهم هذا شرعي .
نعم ليس المراد هنا من نفي ضرها ونفعها أنها جمادات لا عمل لها فقط كما قيل- وإن كانت الحجة على عبادة هذه الأصنام أظهر من الحجة على عبادة الثعابين والبقر والقرود ، ولا يزال لها بقية في الهند ، وعلى عبادة البشر التي هي أساس النصرانية الآرية التي وضعها الإمبراطور قسطنطين ، ومن اتبع سنن النصارى والهنود من جهلة المسلمين- وإنما المراد المقصود بالذات بيان بطلان الشرك بالألوهية- وهو عبادة غير الله مهما يكن المعبود- وبطلان الشرك بالربوبية - وهو قسمان ادعاء وساطتهم في الخلق والتدبير ، واحتجاجهم عليه بشفاعتهم عند الله - وهو كذب في التشريع الذي هو حق الرب وحده ، ولا يعلم إلا بوحيه .بيان الأول أن كل ما عبد ومن عبد من دون الله - حتى الجن والملائكة- لا يملكون لعابديهم النفع والضر بالقدرة الذاتية الغيبية التي هي فوق الأسباب التي منحها الخالق للمخلوقات على اختلاف أنواعها ، لا بذواتهم وكراماتهم ولا بتأثير خاص لهم عند الخالق يحملونه به على نفع من شاءوا ، أو ضر من شاؤوا ، أو كشف الضر عنه ، كما يعتقد عباد الأنبياء والأولياء من البشر إلى هذا اليوم ، ولهذا أمر الله تعالى رسوله أن يحتج على النصارى في عبادتهم للمسيح عليه السلام بقوله:{ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً ولاَ نَفْعاً واللّهُ هُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [ المائدة:76] ، وهذه حجة على عبدة القبور وعلى أصحاب العمائم الذي يتأولون لهم عبادتهم بما يظنون أنه يبعدهم عن عباد الأصنام ، بقولهم:إن هؤلاء الأولياء أحياء عند ربهم كالشهداء ، فهم يضرون وينفعون لا كالأصنام ، ولكن الله تعالى يقول للنصارى:إن المسيح لا يملك لهم ضرا ولا نفعا بعبادتهم له على ما آتاه من المعجزات ، وإن هؤلاء الدجالين من الشيوخ يؤمنون بأن المسيح أفضل من البدوي والحسين والسيدة زينب وغيرهم ممن يزعمون أنهم يملكون الضر والنفع لمن يطلبه منهم ، وحياته لا تزال في اعتقادهم حياة عنصرية وحياتهم برزخية ، ومعجزاته قطعية وكراماتهم غير قطعية .
كذلك أمر الله تعالى رسوله خاتم النبيين وأفضلهم أن يخبر الناس بنفي ملكه لضر الناس ونفعهم وهو حي كما يأتي في الآية ( 49 ) من هذه السورة ، وسبق مثلها في سورة الأعراف ( 188 ) .
{ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} أي ويقولون في سبب عبادتهم لهم- مع اعتقادهم أنهم لا يملكون الضر والنفع بأنفسهم ؛ لإيمانهم بأن الرب الخالق هو الله تعالى-:هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فنحن نعبدهم بتعظيم هياكلهم وتطييبها بالعطر والطواف بها ، وبتقديم النذور لهم ، والإهلال عند ذبح القرابين بأسمائهم ، وبدعائهم والاستغاثة بهم ، لأنهم شفعاؤنا عند الله ، يقربوننا إليه زلفى ، فيدفع بجاههم عنا البلاء ، ويعطينا ما نطلب من النعماء ، هذا ما يقوله منكرو البعث منهم ، وهم الذين لا يرجون لقاء الله تعالى في الآخرة ، على أنهم إذا فرضوا وجودها زعم مجرموهم أنهم يكونون فيها كما كانوا في الدنيا كما حكى الله تعالى عنهم بقوله:{ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وأَوْلَاداً ومَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [ سبأ:35] وقوله في الإنسان الكافر{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي ومَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ولَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} [ فصلت:50] ، وروي عن عكرمة أن النضر بن الحارث من كبار مجرميهم قال:إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى .وكذلك كل من يؤمن بالآخرة -ممن يعبدون غير الله- يعتقدون أن معبوديهم يشفعون لهم فيها كما يشفعون لهم في الدنيا ، فإن أساس عقيدة الشرك أن جميع ما يطلبونه من الله لا بد أن يكون بواسطة المقربين عنده ؛ لأنهم لا يمكنهم القرب من الله والحظوة عنده بأنفسهم ؛ لأنها مدنسة بالمعاصي ، بخلاف دين التوحيد فإنه يوجب على العاصي أن يتوجه إلى الله وحده تائبا إليه طالبا مغفرته ورحمته .
{ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاواتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} ، أي قل لهم أيها الرسول مُنكِرا عليهم جهالتهم وافتراءهم على ربهم:أتخبرون الله تعالى وتعلمونه بشيء لا يعلمه من أمر هؤلاء الشفعاء في السماوات من ملائكته ولا في الأرض من خواص خلقه ؟ فإنه لو كان فيهما شفعاء يشفعون لكم عنده لكان أعلم بهم منكم ، فإنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فكيف يخفى عليه من لهم من المكانة عنده أن جعلهم وسطاء بينه وبين خلقه في قضاء حاجاتهم من نفع وضر ، وفي تقريبهم إليه زلفى ، كالوسطاء عند ملوك البشر الجاهلين بأمور رعيتهم ، والعاجزين عن تنفيذ مشيئتهم فيهم بدون وساطة الوزراء والحجاب والقواد ؟
{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزيها له وتعالى علوا كبرا عما يشركون به من الشفعاء والوسطاء ، وما يفترونه عليه بجعلهم هذا دينا يتقرب به إليه ، فهذا تذييل للجواب مبين لما في هذا الشرك من إهانة مقام الربوبية والألوهية ، وتشبيه رب العالمين بعبيده من الملوك الجاهلين العاجزين .
وقرأ حمزة والكسائي ( تشركون ) بتاء الخطاب ، على أنه تتمة للجواب ، وحكمة القراءتين تنزيهه تعالى عن شرك الجميع ، من غائب محكي عنه ، وحاضر مخاطب .
وفي هذا الجواب من أصول الدين أن شؤون الرب وسائر ما في عالم الغيب توقيفي لا يعلم إلا بخبر الوحي ، ومنه اتخاذ الوسطاء عند الله مما ذكر وأنه عين الشرك ، ولكن من علماء الأزهر من يثبتون هذه الوساطة بالرأي ، ويحرفون ما ينقضها من الآيات المحكمات والأحاديث المتفق عليه كأنها هي الأصل ، حتى إنهم يبيحون دعاء الموتى واستغاثتهم عند قبورهم ، ويحتجون على ذلك بأنهم أحياء فيها ، وبأن الإفرنج أثبتوا وجود الأرواح وعلاقتها بالناس ، ولكن الذين قالوا بهذا من علمائهم -وهو أقلهم- لم يقولوا إنها تنفعهم وتضرهم ، أو تشفع عند الله لهم ، ولو قالوا هذا لما كان لنا أن نتخذ قولهم حجة نعارض بها نصوص ديننا أو نتأولها لتوافقها ، ولمشيخة الأزهر الرسمية مجلة تنشر باسمها هذه البدع والخرافات في جميع بلاد المسلمين ، وتطعن على المعتصمين بالسنة وسيرة السلف الصالحين ، وعلى المعتصمين بالقرآن أيضا -وهو حبل الله المتين- لزعمهم أن الواجب عليهم هو أخذ الدين له كله عن كتب مقلدة الفقهاء والمتكلمين ، حتى المتأخرين منهم دون الأئمة المجتهدين .