/م104
{ ولو شاء الله ما أشركوا} الخ أي ولو شاء الله تعالى ألا يشركوا لما أشركوا ، وذلك أنه لم يخلق البشر مؤمنين طائعين بالفطرة كالملائكة ، وإنما خلقهم مستعدين للإيمان والكفر ، والتوحيد والشرك ، والطاعة والفسق ، ومضت سنته في ذلك بأن يكونوا عاملين مختارين .فأما غرائزهم وفطرهم فكلها خير ، وأما تصرفهم فيها وكسبهم لعلومهم وأعمالهم فمنه الخير والشر ، وقد فصلنا هذه المسألة من قبل .
{ وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل} وإنما أنت بشير ونذير ، والله تعالى هو الحفيظ والوكيل عليهم ، وهو مع ذلك لا يسلبهم استعدادهم ، ولا يجبرهم بقدرته على الإيمان والطاعة له .إذ لو فعل ذلك لكان إخراجا لهم من جنس البشر إلى جنس آخر .ولعل في الجملتين احتباكا ، والتقدير:وما جعلناك عليهم حفيظا تحفظ عليهم أعمالهم لحسابهم وتجازيهم عليها ، ولا وكيلا تتولى أمورهم وتتصرف فيها ، وما أنت عليهم بوكيل ولا حفيظ بملك ولا سيادة .أي ليس لك ذكر من الوصفين بأمرنا وحكمنا ، ولا لك ذلك بالفعل كما يكون نحوه لبعض الملوك بالقهر أو التراضي .وقد تقدم تفسير الحفيظ والوكيل في الآية 66 من هذه السورة{ قل لست عليكم بوكيل} فيراجع تفسيرها وفيه روي عن ابن عباس أن تلك الآية منسوخة بآية السيف وروي ذلك عنه في هذه الآية أو ما قبلها ، والجمهور لا يعدون مثل هذا من المنسوخ كما تقدم ، نعم إنه نزل قبل أن تتكون الأمة ويصير النبي صلى الله عليه وسلم حاكما ولكن نزل مثله بعد ذلك لأن الحاكم ليس حفيظا ولا وكيلا على الأمة بالمعنى المراد هنا ، ففي سورة النساء المدنية{ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا} [ النساء:79] .
وفي هذه الآية وأمثالها من تقرير حرية الدين والاعتقاد ، ما لا نظير له في قانون ولا كتاب .
/خ111*
ومن مباحث البلاغة نكتة الفرق بين قوله تعالى في الآية ( 111 ) من هذه الآيات{ ولو شاء ربك ما فعلوه} وقوله في الآية ( 106 ) من آيات قبلها في السورة{ ولو شاء الله ما أشركوا} وهي أن المشيئة أسندت إلى اسم الجلالة في مقام إظهار الحقائق في شؤون المشركين وما يجب على الرسول وما ليس له ، وأسندت إلى اسم الرب مضافا إلى الرسول في مقام تسليته وبيان سنته تعالى في أعداء الرسل قبله فكأنه يقول:هذا ما اقتضته مشيئة ربك الكافل لك بحسنى تربيته وعنايته نصرك على أعدائك وجعل العاقبة لكم لمن اتبعك من المؤمنين كما تقدم آنفا في تفسير الجملة والحمد لله ملهم الصواب .