مطلب : في صحة إمامة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم
قوله تعالى : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ } ؛ قال أبو بكر : هذه صفة الذين أُذن لهم في القتال بقوله تعالى : { أُذِنَ للَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } إلى قوله : { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ } إلى قوله : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ في الأَرْضِ أَقَامُوا الصّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ } ، وهذه صفة المهاجرين لأنهم الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حقّ ، فأخبر تعالى أنه إن مَكّنّهُمْ في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونَهَوْا عن المنكر ؛ وهو صفة الخلفاء الراشدين الذين مَكَّنَهُمْ الله في الأرض ، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم . وفيه الدلالة الواضحة على صحة إمامتهم لإخبار الله تعالى بأنهم إذا مُكِّنُوا في الأرض قاموا بفروض الله عليهم ، وقد مُكِّنُوا في الأرض فوجب أن يكونوا أئمة قائمين بأوامر الله مُنْتَهِينَ عن زواجره ونواهيه ؛ ولا يدخل معاوية في هؤلاء لأن الله إنما وصف بذلك المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم ، وليس معاوية من المهاجرين بل هو من الطلقاء .
قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ في أمْنِيَّتِهِ } الآية .
مطلب : في [ تلك الغرانيق العلى ] إلى آخره
رُوي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ومحمد بن كعب ومحمد بن قيس : أن السبب في نزول هذه الآية أنه لما تلا النبي صلى الله عليه وسلم : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } [ النجم : 19 و 20 ] ألْقى الشيطان في تلاوته : " تلك الغَرَانِيقُ العُلَى ، وإن شفاعتهنّ لتُرْتَجَى " . وقد اختلف في معنى ألْقى الشيطان ، فقال قائلون : لما تلا النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه السورة وذكر فيها الأصنام على الكفّارُ أنه يذكرها بالذمّ والعيب ، فقال قائل منهم حين بلغ النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى : { أفرأيتم اللات والعزى } [ النجم : 19 ] : " تلك الغرانيق العلى " وذلك بحضرة الجمع الكثير من قريش في المسجد الحرام ، فقال سائر الكفار الذين كانوا بالبعد منه : إن محمداً قد مَدَحَ آلهتنا ؛ وظنّوا أن ذلك كان في تلاوته ، فأبطل الله ذلك من قولهم وبيَّنَ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَتْلُهُ وإنما تلاه بعض المشركين ، وسَمَّى الذي ألقى ذلك في حال تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم شيطاناً لأنه كان من شياطين الإنس كما قال تعالى : { شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] ، والشيطان اسم لكل متمرّدٍ عَاتٍ مِن الجن والإنس . وقيل : إنه جائز أن يكون شيطاناً من شياطين الجنّ ، وقال ذلك عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ومثل ذلك جائز في أزمان الأنبياء عليهم السلام كما حكى الله تعالى عنه بقوله : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } [ الأنفال : 48 ] ، وقال : { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون } [ البقرة : 196 ] . وإنما قال ذلك إبليس حين تصوّر في صورة سُراقة بن مالك لقريش وهم يريدون الخروج إلى بدر ، وكما تصوّر في صورة الشيخ النجديّ حين تشاورت قريش في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وكان مثل ذلك جائزاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لضَرْبٍ من التدبير ، فجائز أن يكون الذي قال ذلك شيطاناً فظنَّ القوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله . وقال بعضهم : جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تكلّم بذلك على سبيل السَّهْوِ الذي لا يَعْرَى منه بَشرٌ فلا يلبث أن ينبهه الله عليه . وأنكر بعض العلماء ذلك ، وذهب إلى أن المعنى أن الشيطان كان يلقي وساوسه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم ما يشغله عن بعض ما يقول ، فيقرأ غلطاً في القصص المتشابهة نحو قصة موسى عليه السلام وفرعون في مواضع من القرآن مختلفة الألفاظ ، فكان المنافقون والمشركون ربما قالوا قد رجع عن بعض ما قرأ وكان ذلك يكون منه على طريق السهو فنبهه الله تعالى عليه . فأما الغلط في قراءة " تلك الغرانيق " فإنه غير جائز وقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم كما لا يجوز وقوع الغلط على بعض القرآن بإنشاد شعر في أضعاف التلاوة على أنه من القرآن . ورُوي عن الحسن أنه لما تلا ما فيه ذكر الأصنام قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إنّما هي عِنْدَكُمْ كالغَرَانِيقِ العُلَى وإنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لتُرْتَجَى في قَوْلِكُمْ " على جِهَة النكير عليهم .