باب المكاتَبَةِ
قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } . رُوي عن عطاء قال : " ما أُراه إلا واجباً " ، وهو قول عمرو بن دينار . ورُوي عن عمر : " أنه أمر أَنَساً بأن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين فأبَى فرفع عليه الدِّرَّةَ وضربه وقال : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً ، وحلف عليه ليكاتبنّه " . وقال الضحاك : " إن كان للمملوك مالٌ فعزيمةٌ على مولاه أن يكاتبه " . وروى الحجاج عن عطاء قال : " إن شاء كاتب وإن شاء لم يكاتب إنما هو تعليم " ، وكذلك قول الشعبي .
قال أبو بكر : هذا ترغيب عند عامة أهل العلم وليس بإيجاب ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يَحِلُّ مَالُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ " ، وما رُوي عن عمر في قصة سيرين يدلّ على ذلك أيضاً ؛ لأنها لو كانت واجبة لحكم بها عمر عليه ولم يكن يحتاج أن يحلف على أنس لمكاتبته ولم يكن أنس أيضاً يمتنع من شيء واجب عليه .
فإن قيل : لو لم يكن يراها واجبة لما رفع عليه الدرة ولم يضربه . قيل : لأن عمر رضي الله عنه كان كالوالد المشفق للرعية ، فكان يأمرهم بما لهم فيه الحظُّ في الدين وإن لم يكن واجباً على وجه التأديب والمصلحة . ويدل على أنها ليست على الوجوب أنه موكول إلى غالب ظنّ المولى أن فيهم خيراً ، فلما كان المرجع فيه للمولى لم يلزمه الإجبار عليه .
وقوله : { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } رَوَى عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } " إنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ حِرْفَةً ولا تَدَعُوهُمْ كَلاًّ على النَّاسِ " . وذكر ابن جريج عن عطاء : { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } قال : " ما نراه إلا المال " ثم تلا قوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً } [ البقرة : 180 ] قال : " الخير المال فيما نرى " ، قال : وبلغني عن ابن عباس : يعني بالخير المال . وروى ابن سيرين عن عبيدة : { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } قال : " إذا صلَّى " . وعن إبراهيم : " وفاءً وصدقاً " . وقال مجاهد : " مالاً " . وقال الحسن : " صلاحاً في الدين " .
قال أبو بكر : الأظهر أنه أراد الصلاح ، فينتظم ذلك الوفاءَ والصدقَ وأداءَ الأمانة ؛ لأن المفهوم من كلام الناس إذا قالوا فلان فيه خير إنما يريدون به الصلاح في الدين ، ولو أراد المال لقال : إن علمتم لهم خيراً ؛ لأنه إنما يقال لفلان مال ولا يقال فيه مال ؛ وأيضاً فإن العبد لا مال له ، فلا يجوز أن يتأول عليه . وما رُوي عن عبيدة " إذا صلى " فلا معنى له ؛ لأنه جائز مكاتبة اليهوديّ والنصراني بالآية وإن لم تكن لهم صلاة .
وقوله تعالى : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ } ؛ اختلف أهل العلم في المكاتَبِ هل يستحق على مولاه أن يضع عنه شيئاً من كتابته ؟ فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والثوري : " إن وضع عنه شيئاً فهو حسن مندوب إليه وإن لم يفعل لم يُجبر عليه " . وقال الشافعي : " هو على الوجوب " . ورُوي عن ابن سيرين في قوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ } قال : " كان يعجبهم أن يَدَعُوا له طائفة من مكاتبته " . قال أبو بكر : ظاهر قوله : " كان يعجبهم " أنه أراد به الصحابة ، وكذلك قول إبراهيم : " كانوا يكرهون " ، وكان يقولون : الظاهر من قول التابعي إذا قال ذلك أنه أراد به الصحابة ؛ فقول ابن سيرين يدل على أن ذلك كان عند الصحابة على الندْبِ لا على الإيجاب ؛ لأنه لا يجوز أن يقال في الإيجاب : " كان يعجبهم " . وروى يونس عن الحسن وإبراهيم : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ } قال : " حَثَّ عليه مولاه وغيره " . وروى مسلم بن أبي مريم عن غلام عثمان بن عفان قال : " كاتبني عثمان ولم يحط عني شيئاً " .
قال أبو بكر : ويحتمل أن يريد بقوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ } ما ذكره في آية الصدقات من قوله : { وفي الرقاب } [ التوبة : 60 ] . وقد رُوي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : علِّمني عملاً يدخلني الجنة ! قال : " أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وفُكَّ الرَّقَبَةَ " قال : أليسا واحداً ؟ قال : " عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا وفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ في ثَمَنِهَا " ، وهذا يدل على أن قوله : { وفي الرقاب } [ التوبة : 60 ] قد اقتضى إعطاء المكاتب ، فاحتمل أن يكون قوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ } دَفْعَ الصَّدَقَاتِ الواجبات ، وأفاد بذلك جواز دفع الصدقة إلى المكاتَبِ وإن كان مولاه غنيّاً . ويدل عليه أنه أُمر بإعطائه من مال الله ، وما أُطلق عليه هذه الإضافة فهو ما كان سبيله الصدقة وصرفه في وجوه القرب ، وهذا يدل على أنه أراد مالاً هو ملك لمن أمر بإيتائه وأن سبيله الصدقة وذلك الصدقات الواجبة في الأموال ، ويدل عليه قوله : { مِنْ مَالِ الله الَّذي آتَاكُمْ } وهو الذي قد صحَّ ملكه للمالك وأُمر بإخراج بعضه ، ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه على عبده والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح . وعلى قول من يوجب حَطَّ بعض الكتابة ينبغي أن يسقط بعد عقد الكتابة ، وذلك خلاف موجب الآية من وجوه ، أحدها : أنه إذا سقط لم يحصل مالاً لله قد آتاه المولى ، والثاني : أن ما آتاه فهو الذي يحصل في يده ويمكنه التصرف فيه ، وما سقط عقيب العقد لا يمكنه التصرف فيه ولم يحصل له عليه بل لا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه إياه . وأيضاً لو كان الإيتاء واجباً لكان وجوبه متعلقاً بالعقد فيكون العقد هو الموجب له وهو المسقط ، وذلك مستحيل لأنه إذا كان العقد يوجبه وهو بعينه مسقط استحال وجوبه لتنافي الإيجاب والإسقاط .
فإن قيل : ليس يمتنع ذلك في الأصول ؛ لأن الرجل إذا زوج أَمَتَهُ من عبده يجب عليه المهر بالعقد ثم يسقط في الثاني . قيل له : ليس كذلك ؛ لأنه ليس الموجب له هو المسقط له ، إذ كان الذي يوجبه هو العقد والذي يسقطه هو حصول ملكه للمولى في الثاني فالموجب له غير المسقط ، وكذلك من اشترى أباه فعتق عليه فالموجب للملك هو الشّرَى والموجب للعتاق حصول الملك مع النسب ولم يكن الموجب له هو المسقط . وقد حُكي عن الشافعي أن الكتابة ليست بواجبة وأن يضع عنه بعد الكتابة واجبٌ أقل ما يقع عليه اسم شيء ، ولو مات المولى قبل أن يضع عنه وضع الحاكم عنه أقل ما يقع عليه اسم شيء . قال أبو بكر : فلو كان الحطُّ واجباً لما احتاج أن يضع عنه بل يسقط القدر المستحق ، كمن له على إنسان دَيْن ثم صار للمدين عليه مثله أنه يصير قصاصاً ، ولو كان كذلك لحصلت الكتابة مجهولة لأن الباقي بعد الحطِّ مجهول ، فيصير بمنزلة من كاتب عبده على ألف درهم إلاّ شيءٌ وذلك غير جائز . وجملة ذلك أن الإيتاء لو كان فرضاً لسقط ؛ ثم لا يخلو من أن يكون ذلك القدر معلوماً أو مجهولاً ، فإن كان معلوماً فالواجب أن تكون الكتابة بما بقي فيعتق إذا أَدَّى ثلاثة آلاف درهم والكتابة أربعة آلاف درهم ؛ وذلك فاسد من وجهين ، أحدهما : أنه لا يصح الإشهاد على الكتابة بأربعة آلاف درهم ، ومع ذلك فلا معنى لذكر شيء لا يثبت . وأيضاً فإنه يعتق بأقلّ مما شرط ، وهذا فاسد لأن أداء جميعها مشروط ، فلا يعتق بأداء بعضها . وأيضاً فإن الشافعي قال : " المكاتَبُ عبدٌ ما بقي عليه درهم " فالواجب إذاً أن لا يسقط شيء ، ولو كان الإيتاءُ مستحقّاً لسقط ، وإن كان الإيتاء مجهولاً فالواجب أن يسقط ذلك القدر فتبقى الكتابة على مال مجهول .
فإن قيل : روى عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن أنه كاتب غلاماً له فترك له ربع مكاتبته وقال : إن عليّاً كان يأمرنا بذلك ويقول : هو قول الله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ } . ورُوي عن مجاهد أنه قال : " تعطيه ربعاً من جميع مكاتبته تعجله من مالك " . قيل له : هذا يدل على أنهم لم يَرَوْا ذلك واجباً وأنه على وجه الندب ؛ لأنه لو كان واجباً عندهم لسقط بعد عقد الكتابة هذا القدر ، إذ كان المكاتب مستحقّاً له ولم يكن المولى يحتاج إلى أن يعطيه شيئاً .
فإن قيل : قد يجوز أن يجب عليه مال الكتابة مؤجلاً ويستحق هو على المولى أن يعطيه من ماله مقدار الربع فلا يصير قصاصاً بل يستحق على المولى تعجيله فيكون مال الكتابة إلى أَجَلِهِ ، كمن له على رجل دين مؤجَّلٌ فيصير للمدين على الطالب دَيْنٌ حَالٌّ فلا يصير قصاصاً له . قيل له : إن الله تعالى لم يفرّق بين الكتابة الحالَّةِ والمؤجلة ، وكذلك من رُوي عنه من السلف الحطُّ لم يفرّقوا بين الحالّة والمؤجلة ، ولم يفرق أيضاً بين أن يحل مال الكتابة المؤجل وبين أن لا يحل فيما ذكروا من الحطّ والإيتاء ؛ فعلمنا أنه لم يرد به الإيجاب إذ لم يجعله قصاصاً إذا كانت حالَّةً أو كانت مؤجلة فحلّت ، وأوجب الإيتاءَ في الحالين ، والإيتاءُ هو الإعطاء ، وما يصير قصاصاً لا يطلق فيه الإعطاء .
ومما يدل من جهة السنّة على ما وصفنا ما رَوَى يونس والليث عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : جاءتني بَرِيرَةُ فقالت : يا عائشة إني قد كاتبتُ أهلي على تسع أَوَاقٍ في كل عام أوقية ، فأعينيني ! ولم تكن قضت من كتابتها شيئاً ، فقالت لها عائشة : ارجعي إلى أهلك فإن أحبّوا أن أعطيهم ذلك جميعاً ويكون ولاؤك لي فعلتُ . فأبوا وقالوا : إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا ؛ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لا يَمْنَعْكِ مِنْها ابْتَاعي وأَعْتِقِي فإنّما الوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " ، وذكر الحديث . وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحوه ؛ فلما لم تكن قضت من كتابتها شيئاً وأرادت عائشة أن تؤدّيَ عنها كتابتها كلها وذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم النكير عليها ولم يقل إنها يستحق أن يحطّ عنها بعض كتابتها أو أن يعطيها المولى شيئاً من ماله ، ثبت أن الحطَّ من الكتابة على الندْب لا على الإيجاب ؛ لأنه لو كان واجباً لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم ولقال لها ولم تدفعي إليهم ما لا يجب لهم عليها . ويدل عليه أيضاً ما رَوَى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة : أن جويرية جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس ، أو لابن عم له ، فكاتبته فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على كتابتي ، فقال : " فَهَلْ لَكِ في خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ ؟ " فقالت : وما هو يا رسول الله ؟ فقال : " أَقضِي عَنْكِ كِتَابَتَكِ وأَتَزَوَّجُكِ " قالت : نعم ؛ قال : " قَدْ فَعَلْتُ " . ففي هذا الحديث أنه بذل لجويرية أداء جميع كتابتها عنها إلى مولاها ، ولو كان الحطُّ واجباً لكان الذي يقصد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأداء عنها باقي كتابتها . وقد رُوي عن عمر وعثمان والزبير ومن قدَّمْنا قولهم من السلف أنهم لم يكونوا يَرَوْنَ الحطَّ واجباً ، ولا يُروى عن نظرائهم خلافه ؛ وما رُوي عن عليّ فيه فقد بينا أنه يدل على أنه رآه ندباً لا إيجاباً . ويدل عليه ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثني عبدالصمد قال : حدثنا همام قال : حدثنا عباس الجريري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إِلاّ عَشْرَ أَوَاقٍ فهُوَ عَبْدٌ ، وأَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلى مِائَةِ دِينَارٍ فَأَدّاها إلاّ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ " ، فلو كان الحطُّ واجباً لأسقط عنه بقدره ، وفي ذلك دلالة على أنه غير مستحقّ ؛ والله أعلم .
باب الكتابة الحالَّة
قال الله تعالى : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } فاقتضى ذلك جوازها حالّةً ومؤجلةً لإطلاقه ذلك من غير شرط الأَجَلِ ، والاسمُ يتناولها في حال التعجيل والتأجيل كالبيع والإجارة وسائر العقود ، فواجب جوازها حالة لعموم اللفظ .
وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال أبو حنيفة وزُفَر وأبو يوسف ومحمد : " تجوز الكتابة الحالّةُ فإن أدّاها حين طلبها المولى منه وإلاّ رُدَّ في الرقّ " . وقال ابن القاسم عن مالك في رجل قال : كاتبوا عبدي على ألف ولم يضرب لها أَجَلاً : " إنها تُنَجَّمُ على المكاتَبِ على قدر ما يرى من كتابة مثله وقدر قُوتِهِ " قال : " فالكتابة عند الناس منَجَّمة ولا تكون حالة إن أبى ذلك السيدُ " . وقال الليث : " إنما جُعل التنجيم على المكاتب رِفْقاً بالمكاتب ولم يجعل ذلك رِفقاً بالسيد " . وقال المزني عن الشافعي : " لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين " .
قال أبو بكر : قد ذكرنا دلالة الآية على جوازها حالّةً ، وأيضاً لما كان مال الكتابة بدلاً عن الرقبة كان بمنزلة أثمان الأعيان المبيعة فتجوز عاجلة وآجلة . وأيضاً لا يختلفون في جواز العتق على مال حالٍّ فوجب أن تكون الكتابة مثله لأنه بدل عن العتق في الحالين ، إلا أن في أحدهما العتق معلّق على شرط الأداء وفي الآخر معجَّل ، فوجب أن لا يختلف حكمهما في جوازهما على بدل عاجل .
فإن قيل : العبد لا يملك فيحتاج بعد الكتابة إلى مدة يمكنه الكسب فيها ، فوجب أن لا تجوز إلا مؤجلة ، إذ كانت تقتضي الأداء ومتى امتنع الأداء لم تصح الكتابة . قيل له : هذا غلط ؛ لأن عقد الكتابة يوجب ثبوت المال في ذمّته للمولى ويصير بها المكاتب في يد نفسه ويملك أكسابه وتصرفه ، وهو بمنزلة سائر الديون الثابتة في الذمم التي يجوز العقد عليها ، ولو كانت هذه علّة صحيحة لوجب أن لا يجوز العتق على مال حالّ لأنه لم يكن مالكاً لشيء قبل العقد وإن جاز ذلك لأنه يملك في المستقبل بعد العتق ، فكذلك المكاتب يملك أكسابه بعقد الكتابة ؛ ولوجب أيضاً أن لا يجوز شِرَى الفقير لابنه بثمن حالٍّ لأنه لا يملك شيئاً ، وأن يعتق عليه إذا ملكه فلا يقدر على الأداء . فإن قلت إنه يملك أن يستقرض ، قلنا في المكاتب مثله .
باب الكتابة من غير ذكر الحرية
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك بن أنس : " إذا كاتبه على ألف درهم ولم يقل إن أدَّيتَ فأنت حرٌّ فهو جائز ويعتق بالأداء " . وقال المزني عن الشافعي : " إذا كاتبه على مائة دينار إلى عشر سنين كذا كذا نجماً فهو جائز ولا يُعتق حتى يقول في الكتابة إذا أَدَّيْتَ هذا فأنت حرّ ، ويقول بعد ذلك إن قولي قد كاتبتك كان معقوداً على أنك إذا أديتَ فأنت حرّ " .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } يقتضي جوازها من غير شرط الحرية ويتضمن الحرية ، لأن الله تعالى لم يقل فكاتبوهم على شرط الحرية ، فدل على أن اللفظ يتضمنها كلفظ الخُلْع في تضمنه للطلاق ولفظ البيع فيما يتضمن من التمليك والإجارة فيما يقتضيه من تمليك المنافع والنكاح في اقتضائه تمليك منافع البُضْع ؛ ويدل عليه أيضاً حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أَيُّما عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةٍ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إلاّ عَشْرَ أَوَاقِيَ فَهُوَ رَقِيقٌ " ، فأجاز الكتابة مطلقة على هذا الوجه من غير شرط حرية فيها ، وإذا صحت الكتابة مطلقة من غير شرط حرية وجب أن يعتق بالأداء لأن صحة الكتابة تقتضي وقوع العتق بالأداء .
باب المكاتَبِ متى يُعْتَق
قال أبو بكر : حَكَى أبو جعفر الطحاوي عن بعض أهل العلم أنه حُكي عن ابن عباس : " أن المكاتَب يُعْتَقُ بعقد الكتابة وتكون الكتابة ديناً عليه " ؛ قال أبو جعفر : لم نجد لذلك إسناداً ولم يقل به أحدٌ نعلمه . قال : وقد رَوَى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يُؤَدِّي المُكَاتَبُ بِحِصَّةِ ما أَدَّى دِيَةَ حُرٍّ وما بَقي عَلَيْهِ دِيَة عَبْدٍ " ، ورواه أيضاً يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس . وقال ابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة وإحدى الروايتين عن عمر : " إن المكاتب عَبْدٌ ما بقي عليه درهم " . ورُوي عن عمر : " أنه إذا أَدَّى النصفَ فهو غريم ولا رقَّ عليه " . وقال ابن مسعود : " إذا أَدَّى ثلثاً أو ربعاً فهو غريم " وهو قول شُرَيح . وروى إبراهيم عن عبدالله : " أنه إذا أَدَّى قيمة رقبته فهو غريم " .
قال أبو بكر : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا هارون بن عبدالله قال : حدثنا أبو بدر قال : حدثنا سليمان بن سليم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المُكَاتَبُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ " . ومن جهة النظر أن الأداء لما كان مشروطاً في العتق وجب أن لا يعتق إلا بأداء الجميع ، كالعتق المعلَّق على شرط لا يقع إلا بوجود كمال الشرط ، ألا ترى أنه إذا قال : " إذا كلمت فلاناً وفلاناً فأنت حر " أن العتق لا يقع إلا بكلامهما ؟ ويدل عليه أنه لما كان مالُ الكتابة بدلاً من العتق لم يَخْلُ ذلك من أحد وجهين : إما أن يوقع العتق بنفس العقد ، وذلك خلاف السنة والنظر على ما بينا ، أو أن يوقعه بعد الأداء فيكون بمنزلة البياعات التي لا يستحق تسليمها إلا بأداء جميع الثمن ؛ فثبت حين لم يقع بالعقد أنه لا يقع إلا بأداء الجميع .
واختلفوا في المكاتب إذا مات وترك وفاءً ، فقال عليّ بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن الزبير : " تؤدَّى كتابته بعد موته ويُعتق " ، وهو قول أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد وابن أبي ليلى وابن شبرمة وعثمان البتي والثوري والحسن بن صالح ؛ وقالوا : " إن فضل شيء فهو ميراثٌ لورثته فإن لم يترك وفاءً وترك ولداً وُلِدُوا في كتابته سَعَوْا فيما على أبيهم من النجوم " . وقال مالك والليث : " إن ترك ولداً قد دخلوا في كتابته سَعَوْا فيها على النجوم وعَتقَ المكاتبُ وولدُهُ ، وإن لم يترك من دخل في كتابته فقد مات عبداً لا تؤدَّى كتابته من ماله وجميع ماله للمولى " . وقال الشافعي : " إذا مات وقد بقي عليه درهم فقد مات عبداً لا يلحقه عتقٌ بعد ذلك " . ورُوي عن ابن عمر : " أن جميع ماله لسيده ولا تؤدَّى منه كتابته " .
قال أبو بكر : لا تخلو الكتابة من أن تكون في معنى الأيمان المعقودة على شروط يبطلها موت المولى أو العبد أيهما كان ، مثل أن يقول : " إن دخلت الدار فأنتَ حرّ " ثم يموت المولى أو العبد فيبطل اليمين ولا يعتق بالشرط ، أو أن تكون في معنى عقود البياعات التي لا تبطلها الشروط ؛ فلما كان موت المولى لا يبطل الكتابة ويعتق بالأداء إلى الورثة وجب أن لا يبطله موت العبد أيضاً ما دام الأداء ممكناً ، وهو أن يترك وفاءً فتؤدَّى كتابته من ماله ويحكم بعتقه قبل الموت بلا فصل .
فإن قيل : لا يصح عتق الميت وقد علمنا أنه مات عبداً ؛ لأن المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم . قيل له : إذا مات وترك وفاءً فحكمه موقوف مُرَاعًى ، فإن أُدّيَتْ كتابتهُ حكمنا بأنه كان حرّاً قبل الموت بلا فصل ، كما أن الميت لا يصح منه إيقاع عتق بعد الموت ثم إذا مات المولى فأدى المكاتب الكتابة فحكمنا بعتق مُوقَعٍ من جهة الميت ويكون الولاء له ، وليس يمتنع في الأصول نظائر ذلك من كون الشيء مراعًى على معنى متى وُجِدَ حكم بوقوعه بحال متقدمة مثل من جرح رجلاً فيكون حكم جراحته مراعىً ، فلو مات الجارح ثم مات المجروح من الجراحة حكمنا بأنه كان قاتلاً يوم الجراحة مع استحالة وقوع القتل منه بعد موته ، وكما أن رجلاً لو حفر بئراً في طريق المسلمين ثم مات فوقعت فيها دابة لإنسان لحقه ضمانها وصار بمنزلة جنايته قبل الموت من بعض الوجوه ؛ فلو كان ترك عبداً فأعتقه الوارث ثم وقعت فيها دابة ضمن الوارث قيمة العبد وحكمنا في باب الضمان بأن الجناية كانت موجودة يوم الموت . ولو أن رجلاً مات وترك حملاً فوضعته لأقل من سنتين بيوم ورثه ، وإن كان معلوماً أنه كان نطفة وقت موته ولم يكن ولداً ثم قد حكمنا له بحكم الولد حين وضعته . ولو أن رجلاً مات وترك ابنين وألْفَ درهم وعليه دين ألف درهم أنهما لا يرثانه ، فإن مات أحد الابنين عن ابنٍ ثم أبرأ الغريم من الدين أخذ ابن الميت منها حصته ميراثاً عن أبيه ؛ ومعلوم أن الابن لم يكن مالكاً له يوم الموت ولكنه جُعِلَ في حكم المالك لتقدم سببه ، كذلك المكاتب يُحكم بعتقه عند الأداء قبل الموت بلا فصل ، ألا ترى أن المقتول خطأً لا تجب ديته إلا بعد الموت وهو لا يملك بعد الموت شيئاً ؟ فجعلت الدية في حكم ما هو مالكه في باب كونها ميراثاً لورثته وأنه يُقْضَى منها دينه وتنفذ منها وصاياه .
قوله تعالى : { وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } . رَوَى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : " كان عبدالله بن أبيّ يقول لجاريته اذهبي فابغينا شيئاً ، فأنزل الله تعالى : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ } الآية " . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ } الآية ، قال : " لهن غفور رحيم " . قال أبو بكر : أخبر تعالى أن المُكْرَهة على الزنا مغفورٌ لها ما فعلته على وجه الإكراه ، كما بيّن تعالى في آية أخرى أن الإكراه على الكفر يزيل حكمه إذا أظهره المكره عليه بلسانه ؛ وإنما قال : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } لأنها لو أرادت الزنا ولم تُرِدِ التحصُّنَ ثم فعلته على ما ظهر من الإكراه وهي مريدة له ، كانت آثمة بهذه الإرادة وكان حكم الإكراه زائلاً عنها في الباطن وإن كان ثابتاً في الظاهر ؛ وكذلك من أُكره على الكفر وهو يأباه في الظاهر إلا أنه فعله مريداً له لا على وجه الإكراه كان كافراً ، وكذلك قال أصحابنا فيمن أُكره على أن يقول : " الله ثالث ثلاثة " أو على أن يشتم النبي صلى الله عليه وسلم فخطر بباله أن يقوله على وجه الحكاية عن الكفار أو أن يعتقد شَتْم محمدٍ آخر غير النبي صلى الله عليه وسلم فلم يَصْرِفْ قَصْدَه ونيته إلى ذلك واعتقد أن يقوله على الوجه الذي أُكره عليه ، كان كافراً .