قوله تعالى : { يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } الآية . حدثنا عبدالله بن محمد المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : لما نزلت : { وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ } دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ بي فقال : " يا عَائِشَةُ إِنِّي ذَاكِرٌ لكِ أَمْراً فَلا عَلَيْكِ أَنْ لا تَعْجَلِي فيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ " قالت : قد علم الله تعالى أن أبويّ لم يكونا يأمرانني بفراقه ، قالت : فقرأ عليّ : { يا أيّها النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ } الآية ، فقلت : أفي هذا أستأمرُ أبويَّ ؟ فإنّي أريد الله ورسوله والدار الآخرة .
وروى غير الجرجاني عن عبدالرزاق ، قال معمر : فأخبرني أيوب أن عائشة قالت : يا رسول الله لا تخبر أزواجك أني أختارك ! قال : " إِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّماً ولم أُبْعَثْ مُتَعَنِّتاً " .
قال أبو بكر : اختلف الناس في معنى تخيير الآية ، فقال قائلون وهم الحسن وقتادة : " إنما خيّرهن بين الدنيا والآخرة ، لأنه قال : { إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } إلى قوله : { وإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ } " . وقال آخرون : " بل كان تخييراً للطلاق على شريطة أنهن إذا اخترن الدنيا وزينتها كنّ مختارات للطلاق ؛ لأنه تعالى قال : { إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعُكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } فجعل اختيارهن للدنيا اختياراً للطلاق " .
ويستدلون عليه أيضاً بما رَوَى مسروق عن عائشة أنها سئلت عن الرجل يخيّر امرأته فقالت : " قد خيَّرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقاً ؟ " وفي بعض الأخبار : " فاخترناه فلم يعده طلاقاً " . قالوا : ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خيّرهن إلا الخيار المأمور به في الآية ، ويدل عليه ما قدمنا من حديث عروة عن عائشة أنها لما نزلت الآية قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنّي ذاكِرٌ لَكِ أَمْراً فلا عَلَيْكِ أَنْ لا تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ " قالت : قد علم الله أن أبويّ لم يكونا يأمرانني بفراقه ، ثم تلا عليها الآية ، قالت : إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . فقالوا : هذا الخبر أيضاً قد حوى الدلالة من وجوه على أنه خيَّرهن بين الدنيا والآخرة وبين اختيارهن الطلاق أو البقاء على النكاح ، لأنه قال لها : " لا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك " ومعلوم أن الاستئمار لا يقع في اختيار الدنيا على الآخرة ، فثبت أن الاستثمار إنما أُريد به في الفرقة أوالطلاق أو النكاح . وقولها : " إن أبوي لم يكونا يأمرانني بفراقة " وقولها : " إني أريد الله ورسوله " فهذه الوجوه كلها تدل على أن الآية قد اقتضت التخيير بين الطلاق والنكاح .
واحتجّ من قال لم يكن تخيير طلاق بقوله تعالى : { إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً } فإنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يطلقهن إذا اخترن الدنيا ولم يوجب ذلك وقوع طلاق باختيارهن ، كما يقول القائل لامرأته : " إن اخترت كذا طلقتك " يريد به استيناف إيقاع بعد اختيارها لما ذكره .
قال أبو بكر : قد اقتضت الآية لا محالة تخييرهن بين الفراق وبين النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن قوله : { وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ } قد دلّ على إضمار اختيارهن فراقَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَها } ، إذ كان النسق الآخر من الاختيار هو اختيار النبي صلى الله عليه وسلم والدار الآخرة ؛ فثبت أن الاختيار الآخر إنما هو اختيار فراقه ، ويدل عليه قوله : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } والمتعة إنما هي بعد اختيارهن للطلاق .
وقوله : { وَأُسَرِّحْكُنَّ } إنما المراد إخراجهن من بيوتهن بعد الطلاق ، كما قال تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } إلى قوله : { سَرَاحاً جَمِيلاً } فذكر المتعة بعد الطلاق ، وأراد بالتسريح إخراجها من بيته .
وقد اختلف السلف فيمن خَيَّر امرأته ، فقال عليّ رضي الله عنه : " إن اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة " وذلك في رواية زاذان عنه ، وروى أبو جعفر عن عليّ : " أنها إذا اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة " . وقال عمر وعبدالله رضي الله عنهما في الخيار وأَمْركِ بيدك : " إن اختارت نفسها فواحدة رجعية وإن اختارت زوجها فلا شيء " .
وقال زيد بن ثابت في الخيار : " إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فثلاث " ، وقال في أمرك بيدك : " إن اختارت نفسها فواحدة رجعية " .
واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضاً ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد : " إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة إذا أراد الزوج الطلاق ، ولا يكون ثلاثاً وإن نوى " وقالوا في أمرك بيدك مثل ذلك إلا أن ينوي ثلاثاً فيكون ثلاثاً .
وقال ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي في الخيار : " إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فواحدة يملك بها الرجعة " .
وقال مالك في الخيار : " إنه ثلاث إذا اختارت نفسها وإن طلقت نفسها واحدة لم يقع شيء " ، وقال في أمرك بيدك : " إذا قالت أردت واحدة فهي واحدة يملك الرجعة ولا يصدق في الخيار أنه أراد واحدة ، ولو قال اختاري تطليقة فطلقت نفسها فهي واحدة رجعية " .
وقال الليث في الخيار : " إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فهي بائنة " . وقال الشافعي في اختاري وأمْرُكِ بيدك : " ليس بطلاق إن أن يريد الزوج ، ولو أراد طلاقها فقالت قد اخترت نفسي فإن أرادت طلاقاً فهو طلاق وإن لم ترده فليس بطلاق " .
قال أبو بكر : التخيير في نفسه ليس بطلاق لا صريح ولا كناية ؛ ولذلك قال أصحابنا إنه لا يكون ثلاثاً وإن أرادهن ، ويدلّ عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم خَيَّرَ نساءه فاخترنه فلم يكن ذلك طلاقاً ، ولأن الخيار لا يختصّ بالطلاق دون غيره ، فلا دلالة فيه عليه ، وليس هو عندكم كقوله : " اعْتَدّي " أنه يكون طلاقاً إذا نوى ؛ لأن العدة من موجب الطلاق ، فالطلاق مدلول عليه باللفظ ؛ وإنما جعلوا الخيار طلاقاً إذا اختارت نفسها بالاتفاق وبأنه معلوم أن تخيير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه لما كان بين الفراق والبقاء على النكاح أنهن لو اخترن أنفسهن لوقعت الفرقة لولا ذلك لم يكن للتخير معنى ، وتشبيهاً له أيضاً بسائر الخيارات التي تحدث في النكاح كخيار امرأة العِنِّين والمَجْبُوبِ فيقع به الطلاق إذا اختارت الفرقة ، ومن أجل ذلك لم يجعلوه ثلاثاً لأن الخيارات الحادثة في الأصول لا تقع بها ثلاث .
فصل
قال أبو بكر : ومن الناس من يحتج بهذه الآية في إيجاب الخيار وفي التفريق لامرأة العاجز عن النفقة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خُيِّر بين الدنيا والآخرة فاختار الفقر والآخرة أمره الله بتخيير نسائه ، فقال تعالى : { يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } الآية . قال أبو بكر : لا دلالة فيها على ما ذكروا ؛ وذلك لأن الله علّق اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لفراقهن بإرادتهن الحياة الدنيا وزينتها ، ومعلوم أن من أراد من نسائنا الحياة الدنيا وزينتها لم يوجب ذلك تفريقاً بينها وبين زوجها ، فلما كان السبب الذي من أجله أوجب الله التخيير المذكور في الآية غير موجب للتخيير في نساء غيره فلا دلالة فيه على التفريق بين امرأة العاجز عن النفقة وبينه .
وأيضاً فإن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للآخرة دون الدنيا وإيثاره للفقر دون الغنى لم يوجب أن يكون عاجزاً عن نفقة نسائه ؛ لأن الفقير قد يقدر على نفقة نسائه مع كونه فقيراً ، ولم يَدَّعِ أَحدٌ من الناس ولا رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عاجزاً عن نفقة نسائه بل كان يدخر لنسائه قوت سنة ، فالمستدل بهذه الآية على ما ذكر مغفل لحكمها .