قوله تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } الآية . فيه إبانة عن المعنى الذي من أجله كتب على بني إسرائيل ما ذكر في الآية ، وهو لئلا يقتل بعضهم بعضاً ؛ فدل ذلك على أن النصوص قد ترد مضمَّنة بمعانٍ يجب اعتبارها في أغيارها في إثبات الأحكام . وفيه دليل على إثبات القياس ووجوب اعتبار المعاني التي عُلّق بها الأحكام وجُعلت عِلَلاً وأعلاماً لها .
وقوله تعالى : { مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ } يدلّ على أن من قتل نفساً بنفس فلا لَوْمَ عليه ، وعلى أن من قتل نفساً بغير نفس فهو مستحقّ للقتل . ويدل أيضاً على أن الفساد في الأرض معنى يستحق به القتل .
وقوله تعالى : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } قد قيل فيه وجوه : أحدها تعظيم الوزر . والثاني : أن عليه مثل مأثم كل قاتل من الناس لأنه سَنَّ القتل وسهله لغيره فكان كالمشارك له فيه ؛ ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما مِنْ قَاتِلٍ ظُلْماً إلاَّ وعلى ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ مِنَ الإِثْمِ لأنّهُ سَنَّ القَتْلَ " ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُها وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ ؛ ومَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها إلى يَوْمِ القِيَامَةِ " . والثالث : أَن على الناس كلهم معونة وليّ المقتول حتى يُقِيدُوه منه ، فيكون كلهم خصومه في ذلك حتى يُقاد منه ، كأنه قتل أولياءهم جميعاً . وهذا يدل على وجوب القَوَدِ على الجماعة إذا قتلت واحداً إذ كانوا بمنزلة من قتل الناس جميعاً .
وقوله تعالى : { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } قال مجاهد : " من أحياها نجّاها من الهلاك " . وقال الحسن : " إذا عفا عن دمها وقد وجب القود " . وقال غيرهم من أهل العلم : " زَجَرَ عن قتلها بما فيه حياتها " . قال :أبو بكر : يحتمل أن يريد بإحيائها معونة الوليّ على قَتْلِ القاتل واستيفاء القصاص منه ، لأن في القصاص حياة كما قال تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] ويحتمل أن يريد بإحيائها أن يقتل القاصد لقتل غيره ظلماً فيكون محيياً لهذا المقصود بالقتل ويكون كمن أحيا الناس جميعاً ؛ لأن ذلك يردع القاصدين إلى قتل غيرهم عن مثله فيكون في ذلك حياة لسائر الناس من القاصدين للقتل والمقصودين به . فتضمنت هذه الآية ضروباً من الدلائل على الأحكام ، منها : دلالتها على ورود الأحكام مضمنة بمعانٍ يجب اعتبارها بوجودها ، وهذا يدلّ على صحة القول بالقياس . والثاني : إباحة قتل النفس بالنفس . والثالث : أن من قتل نفساً فهو مستحق للقتل . والرابع : من قصد قتل مسلم ظلماً فو مستحقّ القتل ، لأن قوله تعالى : { مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ } كما دل على وجوب قتل النفس بالنفس فهو يدلّ على وجوب قتله إذا قصد قتل غيره ، إذ هو مقتول بنفس إرادة إتلافها . والخامس : الفساد في الأرض يستحقّ به القتل . والسادس : احتمال قوله تعالى : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } أن عليه مأثم كل قاتل بعده ، لأنه سَنَّ القتل وسهَّله لغيره . والسابع : أن على الناس كلهم معونة ولي المقتول حتى يُقِيدُوهُ منه . والثامن : دلالتها على وجوب القَوَدِ على الجماعة إذا قتلوا واحداً . والتاسع : دلالة قوله تعالى : { فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } على معونة الوليّ على قَتْلِ القاتل . والعاشر : دلالته أيضاً على قتل من قصد قتل غيره ظلماً ؛ والله أعلم بالصواب .