قوله تعالى : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } ، يعني والله أعلم : أن ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول وللذين تَبَوّءُوا الدار والإيمان من قبلهم ، يعني الأنصار . وقد كان إسلام المهاجرين قبل إسلام الأنصار ، ولكنه أراد الذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان من قبل هجرة المهاجرين .
وقوله تعالى : { وَلا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } ، قال الحسن : يعني أنهم لا يحسدون المهاجرين على فضل آتاهم الله تعالى . وقيل : لا يجدون في أنفسهم ضيقاً لما ينفقونه عليهم .
وقوله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } ، الخصاصة الحاجة ؛ فأثنى الله عليهم بإيثارهم المهاجرين على أنفسهم فيما ينفقونه عليهم وإن كانوا هم محتاجين إليه .
فإن قيل : رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له : معي دينار ! فقال : " أنْفِقْهُ على نَفْسِكَ " فقال : معي دينار آخر ! فقال : " أَنْفِقْهُ على عِيَالِكَ " فقال : معي دينار آخر ! قال : " تَصَدَّقْ به " ، وأن رجلاً جاء ببيضة من ذهب فقال : يا رسول الله تصدق بهذه فإني ما أملك غيرها ! فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءه من الشقّ الآخر فأعرض عنه ، إلى أن أعاد القول ، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورماه بها فلو أصابته لعقرته ، ثم قال : " يَأْتِينِي أَحَدُهُمْ بِجَمِيعِ ما يَمْلِكُ فَيَتَصَدَّقُ به ثم يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ إنّما الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى " ، وأن رجلاً دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب والرجل بحال بذاذة ، فحثّ النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة ، فطرح قوم ثياباً ودراهم ، فأعطاه ثوبين ، ثم حثّهم على الصدقة ، فطرح الرجل أحد ثوبيه ، فأنكره النبي صلى الله عليه وسلم . ففي هذه الأخبار كراهة الإيثار على النفس والأمر بالإنفاق على النفس ثم الصدقة بالفضل . قيل له : إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه لم يثق منه بالصبر على الفقر وخشي أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه ، ألا ترى أنه قال : " يأتيني أحدهم بجميع ما يملك فيتصدق به ثم يقعد يتكفّف الناس " ؟ فإنما كره الإيثار لمن كانت هذه حاله ، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على النفس فلم يكونوا بهذه الصفة بل كانوا كما قال الله تعالى : { والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } [ البقرة : 177 ] ، فكان الإيثارُ منهم أفضلَ من الإمساك ، والإمساك ممن لا يصبر ويتعرض للمسألة أوْلى من الإيثار .
وقد رَوَى محارب بن دثار عن ابن عمر قال : أُهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة ، فقال : إن فلاناً وعياله أحْوَجُ إلى هذا منّا ! فبعث به إليه ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها تسعة أهل أبيات حتى رجعت إلى الأوّل ، فنزلت : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } الآية . ورَوَى الأعمش عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبدالله فقال : يا أبا عبدالرّحمن قد خِفْتُ أن تصيبني هذه الآية : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } ، فوالله ما أقدر على أن أعطي شيئاً أطيق منعه ! فقال عبدالله : هذا البخل وبئس الشيء البخل ، ولكن الشحّ أن تأخذ مال أخيك بغير حق . ورُوي عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } قال : " ادّخار الحرام ومنع الزكاة " .