قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ . . } الآية [ 180 ] : فقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } يدل على وجوب الوصية{[151]} ، وقوله { بالمعروف } أي بالعدل الذي لا شطط فيه ولا تقصير ، كقوله تعالى : { وَعَلَىَ المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمعروفِ }{[152]} { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ{[153]} } ، وقوله { حَقّاً عَلىَ المُتّقِينَ } يؤكد الوجوب . . .
ووردت أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب الوصية ، فمنها ما رواه نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما حق امريء مسلم له مال يوصي فيه ، يمر عليه ليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة{[154]} " ، ثم اختلف الناس في وجوبها أولاً : فمنهم من قال : كان ذلك ندباً ، والصحيح أن ذلك كان واجباً .
وقال ابن عباس في قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } الآية ، إنه منسوخ بقوله : { للرِّجَالِ نَصِيْبٌ }{[155]} الآية ، ورووا بطرق أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا وصية لوارث " . فإن قيل : كيف جوزتم نسخ القرآن بأخبار الآحاد ؟ . . فأجابوا : بأن ذلك لا يمتنع من طريق النظر في الأصول ، فإن بقاء الحكم مظنون ، فيجوز أن ينسخ بمثله ، وشرح ذلك في الأصول . وقد قيل : إن الإجماع انعقد على تلقي هذا الخبر بالقبول ، ومثل ذلك يجوز أن ينسخ به الكتاب .
وليس في إيجاب الميراث للورثة ما ينافي جواز الوصية لهم ، لإمكان أن يجتمع الحقان للورثة بالطريقين ، وإنما ينسخ الشيء ما ينافيه ، والله تعالى لما جعل الميراث بعد الوصية فمن الذي يمنع من أن يعطي الوارث قسطه من الوصية ، ثم يعطى الميراث بعدها ؟ .
وقال الشافعي في كتاب الرسالة : يحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية ، ويحتمل أن تكون ثابتة معها ، ثم قال : فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق مجاهد - وهو منقطع - أنه قال : " لا وصية لوارث{[156]} " ، استدللنا بما روي عنه عليه السلام في ذلك أن المواريث ناسخة للوصايا بالوالدين والأقربين مع الخبر المنقطع .
أما قول الشافعي : يحتمل أن تكون المواريث ناسخة ، فوجه الاحتمال أن الوصية إنما كانت واجبة لتعطي كل ذي حق حقه ، من ماله بعد موته ، فكان إثبات الحق للوارث في ماله لمكان القرابة ، ثم كان يميل الموصي بقلبه إلى بعض الورثة ويقصر في حق بعض الورثة ، فعلم الله تعالى ذلك منهم ، فأعطى كل ذي حق حقه ، ولهذا قال النبي عليه السلام : " إن الله لم يكل قسمة مواريثكم إلى ملك مقرب " الحديث . . إلى أن قال : " ألا لا وصية لوارث " ، فكان الميراث قائماً مقام الوصية فلم يجز الجمع بينهما . . والذي ذكره الشافعي رحمه الله من أن ناسخه الخبر يعترض عليه من وجهين :
أحدهما : أنه منقطع وهو لا يقبل المراسيل . الثاني أنه لو كان متصلاً كان نسخ القرآن بالسنة وعنده أن ذلك غير جائز .
ثم قال الشافعي : قوله عليه السلام : " ألا لا وصية لوارث " لا ينفي الوصية أصلاً للأقربين الذي لا يرثون ودل لفظ الكتاب عليهم ولم يرد ما يوجب نسخه . وقال الشافعي : حكم النبي عليه السلام في ستة مملوكين أعتقهم رجل ولا مال له غيرهم ، فجزّأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء ، فأعتق اثنين وأرق أربعة ، والذي أعتقهم رجل من العرب ، والعرب إنما تملك من لا قرابة بينهم وبينه من العجم ، فأجاز لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية ، فالوصية لو كانت تبطل لغير قرابته بطلت للعبيد المعتقين لأنهم ليسوا بقرابة للميت وبطلت الوصية للوالدين . .
ويعترض على هذا بأنه يجوز أن يكون أمه أعجمية فيكونوا أقرباء من قبل أمه عجماً فيكون العتق وصية لأقربائه ، ولأن فيه نسخ القرآن بالسنة .
والذي يقال في ذلك : أن قوله { والأقربين } ليس نصاً في حق غير الوارث بل يجوز أن يكون قد عنى بالأقربين الوارثين منهم ، فغاية ما في ذلك تخصيص العموم لا النسخ ، فيقال : اللفظ احتمل الوارث ونسخ ، ويحتمل أن يقال : إن الناسخ له مطلق قوله : { من بعد وصية } ، ولم يعرف الوصية حتى ينصرف إلى المتقدم المذكور مثل قوله : { وَالّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } إلى قوله : { فإذْ لَمْ يَأْتُوا بالشهداء } معرفاً . .
واستدل محمد بن الحسن على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين بهذه الآية ، ولا خفاء لما فيه من الضعف . .