قوله تعالى : { وَالّذِينَ يَرْمُونَ المُحصَنَاتِ } ، الآية :[ 4 ] :
والإحصان يختلف معناه باختلاف مواضعه على ما شرحه الفقهاء .
والمعتبر هاهنا في إحصان المقذوف : البلوغ ، والعقل ، والإسلام ، والحرية ، والعفة من الزنا ، وكثير من ذلك لا يدل عليه اللفظ .
وليس في نفس اللفظ من طريق اللغة ، إلا دلالة تخصيص الرمي بالزنا ، إلا أن يشبه أن يكون المراد به ذلك ، مع ما ذكرنا من الإحصان ، ثم لما اجتمعت الأمة في حق المحصنة على أن معنى الرمي بالزنا ، جعلوا المحصن في معنى المحصنة .
وقوله : { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } : يدل على أن شهادة الأربعة شرط في إثبات الزنا ، وليست لصفات الأربع ذكورة وعدالة وحرية ذكر ، لكن الإجماع منعقد عليه ، وليس في الآية رمي المرأة الرجل ، ولكنها في معناه شرعاً .
واختلف الناس في التعريض بالقذف ، فمالك يوجب به الحد ، والشافعي وكافة العلماء على خلافه ، ولا شك أن الشرع إذا علق الحد على الصريح ، فالمحتمل دونه ، فلا يلحق به ، سيما في الحدود التي تدرأ بالشبهات .
ومن أقوى ما يتعلق به في ذلك ما قاله الشافعي ، من أن التعريض بالخطبة لم يلحق بالصريح مع القرائن الدالة على مقصود المتعرض ، فليكن في القذف كذلك ، فإنه أولى بالسقوط بالشبهة .
وإذا ثبت ذلك ، فقد اختلف العلماء في حد العبد ، فقال أكثر العلماء عليه إذا قذف أربعون ، وقال الأوزاعي : يجلد ثمانين ، وعن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود ، أنه قال في عبد قذف حراً أن يجلد ثمانين ، وقال أبو الزناد : جلد عمر بن عبد العزيز عبداً في الفرية ثمانين .
وقال الله تعالى : { فإذَا أُحْصِنّ فإنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ{[1552]} } : وفهمنا من ذلك أن حد الزنا حق الله تعالى ، وأنه ربما كان أخف ممن قبلت نعم الله عليه ، فحسن ممن عظمت نعم الله تعالى عليه ، وأما حد القذف فحق الآدمي وجب للجناية على عَرض المقذوف ، والجناية لا تختلف بالرق والحرية ، وربما قالوا : لو كانت تختلف لذكرها كما ذكرنا في الزنا ؟ وغاية ما يقال أن العبد منزجر عن قذف الحر أكثر من انزجار الحر .
واختلف في حد القاذف دون مطالبة المقذوف ، فقال ابن أبي ليلى :
يحده الإمام وإن لم يطالبه المقذوف ، وقال مالك : لا يحده الإمام قبل طلبه ، إلا أن يكون الإمام قد سمعه فيحده ، إذا كان مع الإمام شهود عدول .
وهذا مشكل على أبي حنيفة ، إذا جعله حقاً لله تعالى ، فإن حق الله تعالى كيف يتوقف على طلب الآدمي ، وإذا لم يسقط بإسقاطه ، كيف يتوقف على طلبه ؟ فهو مناقضة منهم .
واعلم أن قول الله تعالى : { وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُم شَهَادَةً أَبَداً } ، الآية :[ 4 ] : حكم من الله تعالى في القاذف بأربعة شهداء ، فعلق الشرع على القذف عند إظهار العجز عن إقامة الشهادة ثلاثة أحكام : أحدها : جلد ثمانين ، والثاني : بطلان الشهادة ، والثالث : الحكم بتفسيقه إلى أن يتوب .
فقال قائلون : بطلت شهادته ولزمه سمة الفسق قبل إقامة الحد ، وهو قول الشافعي والليث بن سعد{[1553]} ، وقال أبو حنيفة : شهادته قبل الحد مقبولة .
والذي ذكره الشافعي ظاهر جداً ، فإن الحد لا يقام عليه إلا بعد الحكم بفسقه ، فأما أن يتقدم إقامة الحد الحكم بفسقه فكلا ، ولا يبتدأ بإقامة الحد عليه إلا بعد ظهور عجزه ، لا أن بإقامة الحد يظهر عجزه .
وبالجملة : الامتناع من إقامة الحد مع تردد الخبر بين الصدق والكذب أمثل من الحكم بفسقه والتردد في شهادته ، فإن الشهادة ترد بالتهمة والشبهة ، فكيف يتأتى لعاقل أن يقول ذلك .
ونقرر ذلك على وجه آخر فنقول : الموجب لرد الشهادة لا يجوز أن يكون هذا الحد ، فإن إقامة الحد من فعل غيره فيه ، فلا يجوز أن يؤثر ، ولأنه إلى التكفير أقرب ، فالحدود كفارات لأهلها .
فهذه المسألة مقتبسة من الآية ، المسألة الأخرى : أن شهادة القاذف تقبل بعد التوبة ، خلافاً لأبي حنيفة{[1554]} . وظن ظانون أن هذه المسألة مبنية على أن الاستثناء إذا تعقب جملاً ، هل ترجع إلى الجميع أم إلى الجملة الأخيرة ؟ ومن يرده إلى الجملة الأخيرة يحتج برجوعه إليه في مثل قوله تعالى : { إلاّ آل لُوطٍ إنّا لَمُنَجُّوهُم أجْمَعِينَ إلاّ امْرأَتَهُ }{[1555]} فكانت المرأة مستثناة من المنجين لأنها تليهم ، ولو قال : لفلان علي عشرة إلا ثلاثة إلا درهم ، فقوله إلا درهم يرجع إلى الثلاثة .
وهذه جهالة ، فإن فيما قالوه إذا كان الاستثناء من الاستثناء ، والاستثناء من النفي إثبات ، ومن الإثبات نفي ، وقد تعذر الرد إليهما على اختلافهما فيرجع إلى الأقرب ، ولا خلاف في أن الاستثناء في قوله تعالى : { إنما جَزَاءُ الّذِينَ يُحَارِبونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطّعَ أَيْديهِم - إلى قوله - إلاَّ الَذِينَ تَابُوا }{[1556]} يرجع إلى الجميع ويتعلق بالكل ، وكذلك في قوله : { ولاَ جُنُبَاً إلاّ عَابِرِي سَبيلٍ حَتّى تَغْتَسِلوا وإنْ كُنتُم مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ - إلى قوله - فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعِيداً طَيِّباً{[1557]} } ، والتَّيمم راجع إلى الجميع .
وكل ذلك مستغنى عنه ، فإنا على القولين جميعاً نرى قبول شهادته بعد التوبة ، فإن علة رد شهادته رميه وفسقه لا إقامة الحد عليه ، لما بينا من أن إقامة الحد عليه من فعل غيره فيه ، فلا يؤثر في شهادته ، فهو أقرب إلى التفكير كما روى في الحدود ، والتوبة إذا رفعت علة رد الشهادة وهو الفسق . دار القول . فإن المعلول لا يثبت دون العلة فاعلمه ، هذا تمام ما أردنا بيانه من ذلك .
وعندهم أن الله تعالى قال : { والّذِينَ يَرْمُونَ - إلى قوله - ولاَ تَقْبَلُوا لَهُم } وعندهم : إن رمى قبلت شهادته ، فقد خالفوا ظاهر الآية وما خالفنا .
وظن بعض أصحاب أبي حنيفة أنه تعالى لما قال : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } ، فإذا أتى بأربعة شهداء فساق فلا حد عليه ، فإنه أتى بأربعة شهداء وذلك بالفساق ، فلو جاء بأربعة من المحدودين والكافرين ، فلا يسقط الحد عنه ، وكذلك العبيد ، ولا شك أن لفظ الشهداء ليس فيه هذا التفصيل فهو به متحكم ، ولأنه تعالى لما قال : " فإن يأتوا بالشهداء " ، يعني : إذا لم يأت بالشهداء الذين يحصل منهم الصدق ، ويقبل قولهم ، فأولئك كاذبون ، فأما أن يجيء بأربعة لا يصدقهم الشرع في إثبات الزنا ، فكيف يمكن أن يدرأ الحد عنه ؟ فهذا مقطوع به ، وربما بنى ذلك على أن الفاسق من أهل الشهادة ، وذلك مجرد لفظ ، فلا معنى إذا تبين أن الفاسق لا يجوز أن تقبل شهادته في الحدود ، وإن ظهر عند القاضي بالقرائن صدقه ، ولا يجوز إقامة الحد على المشهود عليه بشهادتهم ، وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين .
وعند الشافعي يجب الحد على الشهود وعلى القاذف جميعاً .
ومن أعجب الأمور أنهم قالوا : العدول إذا شهدوا على الزنا متفرقين . فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد يحدون . وقال الشافعي : لا يحدون وتقبل شهادتهم ، مع أنه جاء بأربعة شهداء .