قوله تعالى : { هُوَ الّذي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ } [ 7 ] : فجعل الله آيات الكتاب منقسمة إلى المحكم والمتشابه ، وسمى المحكمات أم الكتاب ، وذلك يقتضي رد المتشابهات إليها ، فإن الأم لا يظهر لها معنى هاهنا ، سوى أنها الأصل لما سواها{[554]} ، ويفهم منها معاني المتشابهات ، وذلك يقتضي كون المتشابه محتملاً لمعاني مختلفة ، يتعرف مراد الله منها بردها إلى المحكمات ، وإن كان كثير منها يستدل بالأدلة العقلية على معرفة المراد منها .
ويمكن أن يقال : سميت المحكمات أمّاً : لأنها أنفع لعباد الله تعالى ، وأفضل من المتشابهات ، كما سميت فاتحة الكتاب أم الكتاب ، وسميت مكة أم القرى .
ويحتمل أن يقال : سمّي المحكمات أم الكتاب لأنه يلوح معناها ، فيستنبط منها الفوائد ، ويقاس عليها فسماها أم الكتاب ، أي الأم والأصل من الكتاب .
فعلى المحمل الأول ، إذا قلنا معنى أم الكتاب أن المتشابهات مردودة إلى المحكمات ، ومعتبرة بها ، ومقيسة عليها ، فالمتشابهات هي التي تحتمل معاني مختلفة ، فيتعرف مراد الله منها بالمحكمات ، وإذا لم يقل ذلك ، فالمتشابهات يجوز أن يعنى بها ما لم يعلم معناه من آيات الساعة وغيرها ، وحروف التهجي التي ظن قوم أنها أودعت معاني لا يعلمها إلا الله ، وإن كان ذلك فاسداً عندنا .
والمتعلق بالأحكام أن تأويل ما يتعلق بأحكام الشرع واجب ، وما لا يتعلق به فلا يجب ويجوز ، وقد ظن قوم أنه لا يجوز لأنه تعالى قال : { فَأمّا الّذينَ في قُلوبِهمْ زَيْغٌ{[555]} فَيَتّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ } [ 7 ] .
وقد جعل قوم تمام الكلام عند قوله : { والرّاسِخونَ في العِلْمِ } [ 7 ] وجعل الواو في قوله : { والرّاسِخونَ } للجمع ، ومنهم من جعل تمام للكلام عند قوله : { إلاّ اللهُ } ، وأن معناه { وَما يَعْلَمُ تأويلَهُ إلاّ اللهُ } يعني تأويل المتشابهات ، والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين : { آمَنّا به كُلٌ مِنْ عِندِ رَبِّنا } ، بما نصب من الدلائل في المحكم ، ومكن من رده إليه ، فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا : آمنا بالجميع ، كل من عند ربنا ، وما لم يحط علمنا به من الخفايا مما في شرعه المصالح ، فعلمنا عند ربنا .
ومن الناس من حرم تأويل المتشابهات ورأى أن معنى قوله في المحكمات : { هُنَّ أمُّ الكِتابِ } أي فواتح السور ، أو هي الأوامر والنواهي ومجامع التكاليف التي هي عماد الدين ، كما أن عماد الباب أم الباب ، واستدل بقوله : { وَما يَعْلَمُ تأويلَهُ إلاَّ اللهُ } ، وقال قوم : { والراسِخونَ في العِلْمِ } لا يجوز أن يكون مضموماً إلى قوله : { إلاّ اللهُ } لأنها لو كانت للجمع لقال : ويقولون آمنا به ، ويستأنف ذكر الواو لاستئناف الخبر .
والذين خالفوا هذا الرأي ذكروا أنَّ مثل هذا شائع ، وقد وجد مثله في القرآن ، وهو قوله في شأن قسم الفيء . { ما أفاءَ اللهُ على رسولِهِ مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وللرّسولِ }{[556]} إلى قوله { شَديدُ العِقابِ } ، ثم تلاه بالتفصيل ، وتسمية من يستحق هذا الفيء فقال : { لِلْفُقَراءِ المُهاجرينَ } ، إلى قوله : { والّذينَ جاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ{[557]} } ، وهم لا محالة داخلون في استحقاق الفيء كالأولين ، والواو فيه للجمع ثم قال : { يَقولونَ رَبّنا اغْفِر لَنا ولإخْوانِنا{[558]} } .
كذلك قوله : { والرّاسِخونَ في العِلْمِ } ، يقولون معناه : والراسخون في العلم يعلمون تأويل ما نصب لهم الدلالة عليه من المتشابه قائلين : " ربنا آمنا " ، فصاروا معطوفين على ما قبله داخلين في خبره ، ولأنهم إذا منعوا تأويل المتشابه ، ووجب اتباع الظاهر ، تناقضت الظواهر ووقعت الأحكام العقلية والسمعية ، وهؤلاء الذين ينظرون إلى هذا الظاهر ، أو لا ينظرون إلى ظاهر الواو في دلالته على الجمع المذكور ولم يحلوا ذلك على الابتداء وقطع المعطوف عليه ، وذلك خلاف ظاهر دلالة الواو وهذا بين .
فأما قوله تعالى : { فأمّا الّذينَ في قُلوبهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعونَ ما تَشابهَ مِنْهُ ، ابْتغاءَ الفِتْنَةِ } ، فمثل ما روي عن الربيع بن أنس ، أن هذه الآية نزلت في وفد{[559]} نجران لما حاجوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا : أليس هو كلمة الله وروح منه ؛ ؟ فقال : بلى . فقالوا : حسناً ، أي أنا لا نسمع منك بعد هذا قولك إنه عبد الله ، بعد أن قلت إنه روح الله ، فنزل قوله تعالى : { فأمّا الّذِينَ في قُلوبهِمْ زَيْغٌ فيتّبِعونَ ما تشابهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتْنةِ وابْتِغاءَ تأويلهِ{[560]} } . ثم أنزل تعالى : { إنَّ مثلَ عيسى عِندَ اللهِ كمثلِ آدَمَ خلقهُ مِنْ تُرابٍ{[561]} } ، الآية ، وقال : { هُوَ الّذي أنْزَلَ عليْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكماتٌ هُنَّ أمُّ الكِتابِ{[562]} } ، معناه : إن كون عيسى عبد الله ، محكم على معنى أن التأويل لا يتطرق إلى الآيات الدالة على أن عيسى عبد الله ، وقوله : " كلمة الله " يحتمل أن يكون معناه : أنه الذي بشر به في كتب الأنبياء المتقدمين ، ومثله قوله تعالى : { ذَلكَ عِيسى ابنُ مرْيمَ قوْلَ الحقِّ الّذي فيهِ يَمْترُونَ }{[563]} الآية ، فسماه كلمة وقولاً من حيث قدم البشارة به . وسمى روحه ، لأنه خلق من غير ذكر ، بل أمر جبريل عليه السلام فنفخ في جيْب مريم فقال : { فنفخْنا فيهِ مِنْ روحِنا{[564]} } ، فأضاف الروح إلى نفسه تشريفاً له كبيت الله ، وأرض الله ، وسماء الله .
وقد سمى القرآن روحاً ، لأنه يحيي به من الضلال ، وسمى عيسى روحاً ، لأنه كان يحيي به الناس في أمور دينهم ، فصرف أهل الزيغ ذلك إلى مذاهبهم الفاسدة ، وإلى ما يعتقدونه من الكفر والضلال ، فهذا مثال المحكم والمتشابه ، الذي يجب أن يرد معناه إلى معنى المحكم .
قوله تعالى : { وَيقْتُلونَ الّذينَ يأمُرونَ بالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ }{[565]} الآية [ 21 ] : يدل على جواز الأمر بالمعروف مع خوف القتل{[566]} .