قوله تعالى : { واللاّتي يأتِينَ الفاحِشةَ مِنِ نِسائِكُم }{[775]} الآية [ 15 ] : الأكثرون على أن الآية منسوخة بما نزل في سورة النور : { الزَّانِيةُ والزَّاني }{[776]} الآية ، والسبيل الذي جعله تعالى لهن : الرحم والجلد .
وقوله : { واللّذانِ يأتِيانها منكُم فآذُوهما{[777]} } : كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ، وكان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير والضرب بالنعال ، فنزلت : { الزَّانِيةُ والزَّاني } الآية .
واعلم أن الآية إن كانت ناسخة فليس فيها فرق بين الثيب والبكر ، وذلك يدل على أنه كان حكماً عاماً في البكر والثيب .
وورد في الأخبار الصحيحة عن عبادة بن الصامت في هذه الآية : { واللاَّتي يأتِينَ الفاحِشةَ مِن نسائِكُم } ، قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليه الوحي ، فكان إذا نزل عليه الوحي تربّد لونه ، وكرب له ، وصرفنا أبصارنا عنه فلم ننظر إليه ، فلما سُرِّي عنه قال : " خذوا عني " . قال : قلنا : نعم يا رسول الله ، قال : قد جعل الله لهن سبيلاً : الثيب بالثيب الرجم ، والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة{[778]} .
وقال الحسن : كان أول حدود النساء كن يحبسن في بيوت لهن حتى نزلت الآية التي في النور : { الزَّانِيةُ والزَّاني{[779]} } . . الآية ، قال عبادة : " كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكر مثل الحديث الأول .
وروي عن الحسن وعطاء أن المراد بقوله تعالى " فآذوهما " الرجل والمرأة ، وقال السدي : البكر من الرجال والنساء ، وعن مجاهد : أنه أراد الرجلين الزانيين ، وأراد بالأول المرأتين الزانيتين ، وذكروا أن الظاهر يدل عليه ، فإنه قال تعالى أولاً : { واللاَّتي يأتِينَ الفاحِشةَ مِن نِسائِكُم } ، فاقتضى ذلك فاحشة مخصوصة من النساء .
وقال : { واللّذانِ يأتِيانها مِنكُم } : فاقتضى ذلك فاحشة مخصوصة بالرجال ، فالأول فاحشة بين النساء ، والثاني فاحشة بين الرجال .
فعلى هذا المذكور من سورة النور ليس نسخاً للأول من الفاحشين ، إذ لا يتعلق الجلد بها ، وفي تعلقه بالفاحشة الثانية اختلاف قول بين العلماء .
ولا شك أن موجب الفاحشة وهو الحبس في البيت ، منسوخ كيفما قدر الأمر ، فأما الفاحشة الثانية فموجبها الإيذاء ، وذلك ثابت الحكم غير منسوخ على قول بعض العلماء ، وتأويل السدي أقرب إلى الظاهر ، وقول غيره يحتمل ، فيمكن أن تكون الآيتان نزلتا معاً ، فأفردت المرأة بالحبس ، وجمعا جميعاً في الأذى ، وتكون فائدة إفرادها بالذكر ، إفرادها بالحبس إلى أن تموت ، وذلك حكم لا يشاركها فيه الرجل ، وقرنت المرأة بالرجل في ذكر الأذى لاشتراكهما .
ويجوز أن تكون المرأة من قبل مشاركة الرجل في الأذى ، ثم زيد في حدها الإمساك في البيت .
واعلم أن قوله : { يأتِينَ الفاحِشةَ مِن نِسائكُم } : الظاهر كونه مقدماً على قوله : { واللّذانِ يأتِيانها مِنكُم } ، فإن قوله : { يأتِيانها } كناية لا بد له من مظهر متقدم مذكور في الخطاب ، أو معهود معلوم عند المخاطب ، فالظاهر رجوع الكناية إلى ما تقدم ذكره من الفاحشة ، فيقتضي ذلك أن يكون حبس المرأة متقدماً ، ثم تعذر زيادة الأذى على الحبس إن كان المراد بقوله : { واللّذانِ يأتِيانها } الرجل والمرأة ، مع أن إضافة الفاحشة إلى المرأة ، يبعد إضافتها ثانية إليها ، إلا بتقدير أمر جديد ، والأذى يشتمل على الحبس وما سواه ، وليس فيه دلالة مصرحة بالزيادة ليعتقد مضموناً إلى ما تقدم ، والظاهر أن قوله : { واللّذانِ } كناية عن الرجلين ، لا عن الرجل والمرأة ، لتقدم بيان فاحشة المرأة .
قيل لهؤلاء وقد قال الله تعالى : { ما ترَكَ على ظهْرِها مِن دابّةٍ }{[780]} من غير أن يتقدم ذكر المكنى عنه بالهاء . . وقال : { إنّا أنزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ }{[781]} فيجوز في قوله : { واللّذانِ يأتِيانها مِنكُم } . . فأجابوا : إن المفهوم من ذكر الإنزال : القرآن ، ومن قوله على ظهرها من دابة : الأرض ، فاكتفى بقرينة الحال عن ذكرها صريحاً .
وقال السدي : إن قوله { فأمسِكوهُنَّ في البُيوتِ } : في الثيبين ، وقوله : { واللّذانِ يأتِيانها مِنكُمَ } : في البكرين . وكيفما قدر فلا بد من شيء منسوخ في الآية .
والصحيح أنه نسخ بقوله عليه السلام : " خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً " الحديث ، ويجب أن يكون قوله : { الزَّانِيةُ والزَّاني } نازلاً بعد قوله عليه السلام : " جعل الله لهن سبيلاً " ، فإنه لو نزل قبل هذا الخبر ، ما كان لقوله عليه السلام : " خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً " معنى ، وذلك يدل على نسخ الكتاب بالسنة .
وعلى هذا إذا نزلت آية النور بعد خبر عبادة ، فإنما يكون متضمناً بعض حكم زنا البكر ، من غير تعرض لزنا الثيب ، ومن غير تعرض لنفي سنة ، وذلك في القلب منه شيء .
وكيف ترك الأمر العظيم الأهم من زنا الثيب ورجمه بقول : الزانية والزاني ، فيأتي بالألف واللام الدالين على استغراق الجنس ، ويقول بعد ذلك : { ولا تأخُذكُم بهِما رَأفَةٌ في دينِ اللهِ{[782]} } ، وذلك لأجل المبالغة ، فيتعرض لمزيد تغليظ عليهم ليس من جنس الحد ، ويقول في تمام التغليظ : { ولْيَشْهَد عَذابَهما طائِفةٌ مِنَ المؤمِنِينَ } .
فيظهر من مجموع هذه المبالغة في التغليظ أنه لو كان ثم حد آخر أوفى منه ، لكان أولى بأن يتعرض له ، فيظهر بذلك الاحتمال الآخر وهو أن قوله : { فآذوهُما } ، { وأمْسِكوهُنَّ } ، لم ينسخه خبر عبادة ، وإنما نسخه الذي في النور ، فكان ذلك شاملاً للبكر والثيب جميعاً على وجه واحد ، فإن الثيب أكثر من يصدر منهم الزنا ، فكيف لا يتعرض لهن .
يبقى أن يقال : فما معنى قوله عليه السلام : " خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً " والسبيل كان سابقاً ؟ فيقال : إن ذلك من أخبار الآحاد ، فلا يعترض به على هذا الأمر المقطوع به الذي قلناه ، أو يقال : قوله : " قد جعل الله لهن سبيلاً " ، بيان حكم الله تعالى ، وحكم الله تعالى يجوز أن يرد في دفعتين ، فإذا ورد ثانياً ، كان تتمة السبيل الذي أطلقه كتاب الله تعالى .
وفيه شيء آخر من الإشكال ، وذلك أن الله تعالى يقول في الآية الأولى : { فأمْسِكوهُنَّ في البُيوتِ حتّى يَتَوَفَاهُنَّ الموتُ } الآية [ 15 ] ، ويقول في الآية الثانية : { فَآذوهُما فإنْ تابا وأصْلَحا فأعرِضُوا عَنْهُما } الآية [ 16 ] .
فإن كان الذي وجب على الرجلين ، أو على الرجل والمرأة على اختلاف المعنيين ، عين الحبس ، فإذا عُزر المَعزر منه ، وجب الإعراض عنه ، تاب أو لم يتب بقوله : { فإنْ تابا وأصْلَحا فأعْرِضوا عَنْهُما } ، فإنه ذلك يقتضي عقاباً دائماً يسقطه التوبة والصلاح والإخلاص ، ويكون ذلك الحبس ، فيقتضي ذلك أن يكون الإيذاء عبارة عن الحبس أيضاً ، كما كان في الأولى ، إلا أن الله تعالى عبر عنهما بعبارتين مختلفتين . فهذا تمام ما تيسر تقريره هاهنا ، مع ما فيه من الإشكال .
وقد أنكرت الخوارج الرجم ، لأجل أن الذي في سورة النور لا يحتمل أن يكون في وقت اختلاف حد البكر والثيب كما قررناه ، وإذا كان كذلك فلا بد وأن يكون تمام الحد هو القدر المذكور في سورة النور في حق البكر والثيب جميعاً ، فإذا كان كذلك ، فشرع الرجم نسخ لهذه الآية ، ونسخ القرآن بأخبار لا يجوز بوجه .