قوله تعالى : { لاَ تَأكُلُوا أمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطلِ إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم{[895]} } : اعلم أن في الناس من ظن أن غير التجارة من الهبات والصدقات ، داخل تحت قوله بالباطل ، إلا أنه ينسخ بالإجماع ، أو بقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُم جُناحَ أَنْ تَأكُلُوا من بُيُوتِكُم أَوْ بُيُوت آبَائِكُم{[896]} } ، وهذا نقل عن ابن عباس ، والحسن . والذي هو الحق ، أنه لا يفهم من أكل بالباطل ، تحريم الهبات التي يبتغي بها الأغراض الصحيحة ، وإنما حرم الله تعالى أكل المال بالباطل ، والباطل الذي لا يفضي إلى غرض صحيح ، مثل أكل المال بالقمار والخمر والإغرار ، قال الله تعالى : { ولا تَأكُلُوا أَمْوَالَكَم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ وتُدْلُوا بِهَا إلىَ الحُكّامِ لِتَأكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالإثْمِ{[897]} } :
فالنهي مقيد بوصف وهو أن تأكله بالباطل ، وقد تضمن ذلك : أكل أبدال العقود الفاسدة ، كأثمان البياعات الفاسدة ، وكل شيء ما أباحه الله تعالى ، فأما الذي أباحه الله تعالى من العقود ، فلا مدخل فيه .
ثم إن الله تعالى قال : { إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً{[898]} } : فظاهره يقتضي إباحة سائر التجارات الواقعة عن تراض ، والتجارة اسم واقع على عقود المعاوضات المقصود بها طلب الأرباح ، قال الله تعالى : { هَلْ أَدُلُّكُم عَلىَ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ{[899]} } : فسمى الإيمان تجارة على وجه المجاز ، تشبيهاً بالتجارات التي يقصد بها الأرباح ، وقال تعالى : { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ{[900]} } ، كما سمى بذل النفوس لجهاد الكفار يقصد بها الأرباح ، قال الله تعالى : { إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسهُمْ وأَمْوالَهُم }{[901]} الآية : وقال تعالى : { ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَراهُ مَالَهُ في الآخِرَةِ مِنْ خَلاَق ، وَلَبِئْسَ مَا شَروْا بِهِ أَنْفُسَهُم لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون{[902]} } ، فسمى ذلك بيعاً وشراء على وجه المجاز ، تشبيهاً بعقود الأشربة والبياعات ، التي يحصل بها الأعواض ،
كذلك سمى الإيمان بالله تجارة لما يستحقون به من جزيل الثواب .
واستدل أصحاب أبي حنيفة ومالك بهذه الآية على نفي خيار المجلس ، فإن الله تعالى قد أباح كل ما اشتري بعد وقوع التجارة عن تراض ، وما يقع من ذلك بإيجاب الخيار ، خارج عن ظاهر الآية مخصص لها بغير دلالة ، ونظير ذلك استدلالهم بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالعُقُودِ{[903]} } ، فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد على نفسه ، وذلك عقد قد عقده كل واحد منهما على نفسه ، فألزمه الوفاء به ، وفي إثبات الخيار نفي للزوم الوفاء به ، وذلك خلاف مقتضى الآية ، وقال تعالى : { إلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُم فَلَيْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ أَلاَ تَكْتُبُوها وأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُم{[904]} } ، ثم أمر عند عدم الشهود بأخذ وثيقة الرهن ، وذلك مأمور به عند عقد البيع قبل التفرق ، لأن قوله تعالى : { إذَا تَدَايَنْتُم بِدَينٍ إلى أَجَلٍ مُسَمّى فَاكْتُبُوه{[905]} } ، فأمر بالكتابة عند عقد المداينة وأمر بالكتابة بالعدل وأمر الذي قد أثبت الدين عليه بقوله : { وَلْيُمْلِلِِ الّذِي عَلَيهِ الحَقُّ وَلْيَتّقِ اللهَ رَبَهُ ولاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً{[906]} } . فلو لم يكن عقد المداينة موجباً للحق عليه قبل الافتراق لما قال : { وَلْيُمْلِلِِ الّذِي عَلَيهِ الحَقُّ } ، ولما وعظه بالبخس وهو لا شيء عليه ، لأن ثبوت الخيار له يمنع ثبوت الدين للبائع في ذمته ، وفي إيجاب الله تعالى الحق عليه بعقد المداينة في قوله : { ولّيُملِلِ الّذي عَلَيْهِ الحَقُّ } ، دليل على نفي الخيار وإيجاب الثبات .
ثم قال : { واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم }{[907]} تحصيناً للمال ، وقطعاً لتوقع الجحود ، ومبالغة في الاحتياط .
وقال تعالى : { وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبيراً إلَى أجَلِهِ ذَلِكُم أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وأَقُومُ لِلشّهادةِ ، وأدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً{[908]} } : فلو كان لهما الخيار قبل التفرق لم يكن في الشهادة احتياط ، ولا كان أقوم للشهادة إذا لم يمكن إقامة الشهادة بثبوت المال .
ثم قال تعالى : { إذا تَبَايَعْتُم } ، وإذا : كلمة تدل على الوقت ، فاقتضى ذلك الأمر بالشهادة عند وقوع التبايع من غير ذكر الفرقة ، فأمر برهن مقبوضة في السفر ، بدلاً من الاحتياط بالإشهاد في الحضر ، وفي إثبات الخيار وإبطال الرهن إذ غير جائز إعطاء الرهن بدين لم يجب بعد .
فدلت الآية بما تضمنته من الأمر بالإشهاد على عقد المداينة ، والتبايع من غير تعوض للافتراق أن لا خيار ، إذ كان إثبات الخيار مانعاً معنى الإشهاد والرهن ، فهذا كلام الرازي بأحكام القرآن حكيناه بلفظه .
والجواب عنه : أن الله تعالى وتقدس ، أمر بالإشهاد والكتابة بناء على غالب الحال في أن الشهود يطلعون على الافتراق والبيع جميعاً ، وليس للبيع مما يدوم غالباً أو يتمادى زمانه ، حتى يجري الإشهاد على أحدهما دون الآخر ، فأراد الله تعالى بيان الوثائق على ما جرت به العادة من البيع ، ويدل على ذلك ، أن قبل القبض لا ينبرم العقد في البيع وفي الصرف ، وإذا تفرق المتبايعان بطل الصرف ، وإذا هلك المبيع قبل القبض بطل البيع ، فتبطل الوثائق جملة ، وذلك لم يمنع الإرشاد إلى الوثائق في البياعات والمداينات ، وكذلك بالقول في خيار الرؤية فيما لم يره في خيار الشرط ، فلا حاصل لما قاله هؤلاء فاعلمه .
ووراء ذلك تعلق الرازي بفنون ، يقع الجواب عنها في مسائل الخلاف ، لا تعلق لها بمعاني القرآن ، وذلك عادته ، فإنه إذا انتهى إلى مسألة مختلف فيها ، بين أبي حنيفة وغيره ، يستقصي الكلام فيها فيما يتعلق بالخبر والقياس ، ويخرج بها عن مقصود الكتاب .
قوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلوا أَنْفُسَكُم }{[909]} الآية ، معناه : لا يقتل بعضكم بعضاً ، وهو نظير قوله تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُم فِيهِ{[910]} } ، أي حتى يقتلوا بعضكم ، ومجازه أنهم كالشخص الواحد ، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضاً . ويحتمل أن يقال : ولا تقتلوا أنفسكم في الحرص على الدنيا وطلب المال ، بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف . ويحتمل " ولا تقتلوا أنفسكم " في حال ضجر أو غضب .