قوله تعالى : { ولِكُل جَعَلْنَا مَوَاليَ مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُون } ، الآية [ 33 ] : قال ابن عباس ومجاهد : المولى هاهنا العصبة ، وقال السدي : الورثة . وأصل المولى : من ولي الشيء يليه ، وهو إيصال الولاية في التصرف ، والمولى لفظ مشترك يطلق على وجوه ، فيسمى المعتِق مولى والمعتَق كمثل ، ويقال : المولى الأسفل والأعلى ، لاتصال كل واحد منهما بصاحبه ، ويسمى الناصر المولى : { وأَنَّ الكَافِرِينَ لاَ مَوْلىَ لَهُم{[919]} } . ويسمى ابن العم مولى ، والجار مولى .
وقد بسط المتكلمون من أهل السنة أقوالهم في هذا في الرد على الإمامية ، عند احتجاجهم بقوله عليه السلام : " من كنت مولاه فعلي مولاه{[920]} " ، فمعنى الولاء هاهنا العصبة ، لقوله عليه السلام : " ما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر{[921]} " .
وقوله " فلأولى عصبة ذكر " يدل على أن المراد بقوله : { ولِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِي مِمّا تَرَكَ الوَالِدانِ والأَقْرَبُون } هم العصبات{[922]} .
ومن العصبات المولى الأعلى لا الأسفل ، على قول أكثر العلماء ، لأن المفهوم في حق العتق ، أنه المنعم على المعتق ، وكالموجد له ، فاستحق ميراثه لهذا المعنى .
وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد : أن المولى الأسفل ، يرث من الأعلى واحتج فيه بما روي : أن رجلاً أعتق عبداً له ، فمات المُعْتِق ولم يترك إلا المُعْتَق ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المُعْتَق{[923]} . قال الطحاوي : ولا معارض لهذا الحديث ، فوجب القول به ، ولأنه إذا أمكن إثبات الميراث للمعتق ، على تقدير أنه كالموجد له ، فهو شبيه بالأب ، والمولى الأسفل شبيه بالابن ، وذلك يقتضي التسوية بينهما في الميراث . والأصل أن الاتصال يعم ، وفي الخبر : " ومولى القوم منهم{[924]} " .
والذي خالفوا هذا وهم الجمهور قالوا : الميراث يستدعي القرابة ولا قرابة ، غير أنا أثبتنا للمعتق الميراث بحكم الإنعام على المعتق ، فيقتضي مقابلة الإنعام بالمجازاة ، وذلك لا ينعكس في المولى الأسفل .
وأما الابن فهو أولى الناس بأن يكون خليفة أبيه وقائماً مقدمه ، وليس المعتق صالحاً لأن يقوم مقام معتقه ، وإنما المعتق قد أنعم عليه ، فقابله الشرع بأن جعله أحق لمولاه المعتق ، ولا يوجد هذا في المولى الأسفل ، فظهر الفرق بينهما .
قوله تعالى : { والذين عاقدت{[925]} أيمانكم فآتوهم نصيبهم } الآية [ 33 ] :
قال ابن عباس في ذلك : كان المهاجر يرث الأنصاري دون ذي رحمه بالأخوة التي جعلها الله تعالى بينهم بالإسلام{[926]} فلما نزلت : { ولِكُل جَعَلْنَا مَوَالي مِمّا تَرَكَ الوَالِدانِ والأَقْرَبُون } نسخت ، ثم قرأ : { والّذيِنَ عَاقَدتْ أَيْمَانُكُم فَآتُوهُم نَصِيبَهُم } من النصر والرفادة والوصاية ، وقد ذهب الميراث .
وعن ابن عباس : { والّذيِنَ عَاقَدَتْ أَيْمانُكُم فَآتُوهُم نَصِيبَهُمْ } ، فكان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر ، فأنزل الله تعالى : { وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُم أَوْلَى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهَاجِرِينَ إلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُم مَعْرُوفاً{[927]} } ، يقول : " إلا أن توصوا{[928]} " . وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى : { والّذيِنَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُم فَآتُوهُم نَصِيبَهُم } قال : كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيموت فيرثه . وعاقد الصديق أبو بكر رضي الله عنه رجلاً ، فورثه لما مات . وقال سعيد بن المسيب : هذا في الذين كانوا يتبنون رجالاً ويورثوهم ، فأنزل الله تعالى فيهم ، أن يجعل لهم من الوصية ، ورد الميراث إلى المولى من ذوي الرحم والعصبة{[929]} .
وإذا ثبت هذا فأبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد صاروا إلى أن الميراث بالمعاقدة ، لم ينفسخ عند فقد الأقربين والمولى ، بل يتعلق بها الميراث عند عدم الرحم والولاء ، فإن الله تعالى جعل ذوي الأرحام أولى ، فإذا لم يكونوا بقي على حكم الآية ، وهذا بعيد ، فإن الذي في الآية : { ولكُل جَعَلَنَا مَواليَ مِمّا تَركَ الوالِدَانِ والأقْرَبُونَ والّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُم } ، فأثبت الميراث بالمعاقدة عند وجودها ، وعلى أن قوله : { فآتُوهُم نَصِيبَهُم } ، ليس نصاً في الميراث ، بل معناه : من النصرة والمعونة والرفاد .